وفيما هو سائر، رأى الناس يحملون أكياسا من التبن إلى معسكر إسماعيل، فظنه علفا للجمال فلم يبال، ثم رأى الناس يتقاطرون نحو المعسكر، فقال في نفسه: «هلم معهم لعلي أقف على خبر!» فسار حتى وصل إلى المعسكر فإذا الملك النمر والباشا وضباطه قد جلسوا في بقعة وسط المعسكر يتمازحون ويضحكون، وأمامهم حلقة من الرجال السودانيين ينفخون ويرقصون الرقصة السودانية، وقد أدار الملك النمر نوعا من الشراب يكثر تعاطيه في السودان، يقال له: «المريسة» ويسميه أهل مصر «البوظة»، وهو يصنع من منقوع الذرة، ويشبه في طعمه وخواصه الجعة (البيرة)، وكان النمر يعطي إسماعيل باشا وأهل مجلسه وهم يشربون حتى مضى معظم الليل، كل ذلك وسعيد شاخص ببصره ينظر إلى الناس ويتأمل وجوههم، فوقع نظره على رجل مقطب الوجه جالس في مجلس الباشا، لا يشرب من ذلك الشراب ولا يكترث لتلك الألعاب، بعكس رفاقه، فإنهم كانوا يقهقهون ويصرخون، وكذلك الباشا. •••
فتأمل سعيد ذلك الوجه الذي تبدو عليه ملامح الكبر أكثر كثيرا مما كان يعهد بسيده، وهو مطرق إلى الأرض، وبيده غليون يدخن فيه وينفخ متأففا، ثم خطرت له حكاية الأمير، وأن سيده شاخ قبل أوانه، فرجح عنده أنه سيده، فكاد يطير من الفرح، وهم أن يناديه من بين الجماهير، ولكنه تجلد خوفا من أن يقع عليه غضب إسماعيل باشا، إذ لم يكن قد نسي ما أصاب الملك النمر من الإهانة، وأراد أن يتريث، ولكن عواطفه لم تطاوعه فصار يرقص فرحا، والناظر إليه يظنه يرقص مع الراقصين حتى أخذ الحاضرون يضحكون منه، وقد دخل في جملة الراقصين عسى أن يتمكن بذلك من الاقتراب من سيده، وأخذ يقترب منه شيئا فشيئا، بينما كان جميع من في مجلس الباشا يترنحون، وقد لعبت الخمر برءوسهم، فصاروا يرقصون أيضا.
أما سيده فكان لا يزال مطرقا عابسا، لا يبدي حراكا، وكلما فرغ غليونه، ملأ غيره.
ثم نهض من بين الناس ودار من وراء مقعد إسماعيل، فظنه سعيد ذاهبا في حاجة لا يلبث أن يعود بعد قضائها، ولم يكن يستطيع الوصول إليه لتوسط مقعد الباشا وحاشيته بينهما فمكث في انتظار عودته، ولكن غيبته طالت، وفي أواخر الليل نهض إسماعيل باشا ورجاله، فذهب كل منهم إلى مكان نومه، وسار إسماعيل إلى قصره، كل ذلك وسعيد لم يعد يشاهد سيده فانشغل باله. وفيما هو يفتش عنه رأى اللهيب يتقد، والدخان يتصاعد من جهة قصر إسماعيل وما جاوره من الخيام ومن التبن الذي كانوا قد جمعوه في مساء ذلك اليوم، ولم يكن سعيد قبل ذلك يعلم بتلك المكيدة، فخشي على سيده أن يذهب فريسة النار قبل أن يعلم بحياة زوجته، فأسرع إلى مكان اللهب يفتش عنه، ولما لم يجده جعل يطوف كالمجنون، وينادي بعبارات مختلفة كان يقولها على غير هدى، وكان يرى بعينه اشتعال النار من جهة، وسيوف الشائقية وحرابهم من جهة أخرى تعمل في رجال إسماعيل، فسار نحو النيران، وقد شهر السيف في يده إيهاما لرجال الملك النمر أنه مثلهم عامل على تحقيق هدفهم، وفيما هو بقرب اللهيب، رأى سيده خارجا من خيمته مسرعا نحو النار كأنه يريد أن يلقي بنفسه فيها تخلصا من الحياة، فناداه سعيد: «قف يا سيدي لا تقتل نفسك إن سيدتي سلمى حية.» وكان أمين بك قد شاهد سعيدا هاجما عليه في زي السودانيين، فظنه منهم، فضربه بالسيف على عنقه، فسقط لا يبدي حراكا، وسمعه يقول: «قتلتني يا سيدي، أنا عبدك سعيد.» •••
أراد أمين أن يعود إلى المكان ليتحقق من الأمر، فإذا بجماعة كبيرة هاجمون عليه بالحراب والسيوف والبنادق، وكانت الحياة قد عزت عليه حين سمع ببقاء زوجته في عداد الأحياء، فخشي إن هو ثبت أمام الهاجمين، أن تدور الدائرة عليه، فلا يعود إلى زوجته، فآثر الفرار في عرض الصحراء حتى وصل إلى مأمن جلس فيه يفكر فيما سمعه ورآه، وهو يحسبه أضغاث أحلام، فندم على فراره دون أن يتحقق من حال سعيد، وحدثته نفسه أن يعود إلى موضع المكيدة، لعله يستطلع شيئا من أخباره، ولكنه رأى في رجوعه خطرا عليه، وهو مع ذلك لا يأمل أن يستفيد شيئا لأن ضربته كانت قاتلة، وتذكر أن سعيدا قال له: «قتلتني يا سيدي» فتأسف كثيرا، ولكنه عاد فتذكر أن سعيدا لم يقل له أين هي زوجته فازداد أسفا، وحينما يئس من سعيد، هام على وجهه يفتش عن زوجته.
حصار عكا
لنترك أمينا يفتش عن زوجته، ولنرجع إلى بيت الدين، فنرى سلمى قد يئست من وجود زوجها، وقد مرت عليها سبع سنوات ولم تسمع عنه خبرا. ففقدت الأمل في لقائه والاجتماع به، وكان غريب قد بلغ الحادية والعشرين من العمر، وتعلم الفروسية جيدا وسافر مع الأمير بشير عدة مرات، وحضر عدة وقائع حربية أظهر فيها بسالة عظيمة حتى أجمع الكل على محبته، فكان ذلك أكبر تعزية لوالدته، وهو إلى ذلك اليوم لم يعلم شيئا عن والده الحقيقي.
اهتمت والدة غريب بأمر زواجه شأن كل الأمهات، فاختارت له ابنة فريدة الأوصاف من العشيرة الشهابية، وعندما عقدت النية على خطبتها لابنها أرادت أن تعرف رأيه قبل التحدث في هذا الشأن. ففي ليلة من ليالي شهر تشرين الأول (نوفمبر) سنة 1831م دعته إلى حجرتها وعرضت عليه رأيها، وامتدحت الابنة ما استطاعت، ثم سألته عما إذا كان يحبها فقال: «يا والدتي إني أحب الذي تحبينه، وإن كنت لا أعرف الابنة لا اسما ولا جسما، فأنا واثق أنها ستكون موافقة لي كثيرا ما دام اختيارك قد وقع عليها، ولكنني أرى أن هذا الوقت ليس وقت زواج.» فقالت: «وما المانع؟» فقال: «إن والدي الآن منشغل البال مضطرب النفس بسبب الأحوال السياسية، فلا يليق مفاتحته في هذا الأمر وهو بتلك الحال، فالأفضل إرجاء الزواج لفرصة أخرى.»
فقالت سلمى: «وكيف ذلك يا ولدي؟ وما الداعي لاضطراب الأمير؟ أخبرني!»
فقال غريب: «أنت تعلمين أن إمارة والدي الأمير بشير على لبنان تحت ولاية عبد الله باشا والي عكا، ولا يخفى عليك أن والدي حينما توجه في المرة الماضية إلى مصر، وتوجهت أنا برفقته، إنما كان غرضه من ذلك مساعدة عزيز مصر على التماس العفو من مولانا السلطان، عن عبد الله باشا المذكور، فصدر العفو وعادت ولاية عكا إليه بعد أن كادت تخرج من يده، وكان المعتقد أن يقر بهذا المعروف لوالدي ولمحمد علي، ولكنه بدلا من ذلك جحد فضلهما، فأصبح والدي ناقما على عبد الله باشا وإن كان لا يستطيع التظاهر بذلك لأنه تحت ولايته.
Bilinmeyen sayfa