قال سعيد: «أنا أذهب ولا أعود إليكم إلا بعد أن آتي به سالما إن شاء الله.»
فقال الأمير: «سننظر في ذلك غدا.» قال سعيد: «يا سيدي لا حاجة بنا إلى التأجيل، فإني أعلم أن سيدتي على أحر من جمر الغضا، وأما أنا فلا تسأل عن قلبي الآن، وأرجو أن تأذن لي في الذهاب إلى مصر اليوم للتفتيش عن سيدي، فخير البر عاجله.» فعجب الجميع من شهامة هذا العبد الأسود وغيرته، وفي الحال أمر الأمير كاتب أسراره المعلم بطرس كرامة أن يعد كتابا إلى محمد علي باشا في هذا الشأن ليساعد سعيدا في البحث عن سيده، فأخذ سعيد يعد كل ما يلزمه للسفر.
وبعد ظهر ذلك النهار، حيا سعيد الأمير بشيرا وجميع أهل القصر، ولا سيما جميلة وغريب، وخرج من بيت الدين راكبا، والجميع يدعون له بالتوفيق.
أما جميلة فبعد أن أتم الأمير حديثه وقفت بين يديه قائلة: «أسألك يا سيدي وأسألكم جميعا أيها الحاضرون ألا تطلعوا غريبا على هذه الحكاية؛ لأني أخشى ألا نظفر بوالده، لا سمح الله، فنكون قد سببنا له الكدر بغير داع، أما إذا ظفرنا به فسنطلع غريبا على حقيقة حاله؛ لأنه الآن يظن نفسه ابن الأمير بشير، فاتركوه على هذا الاعتقاد، حتى نرى ما سيكون من أمر سعيد وسفره.» فوافقها الجميع على ذلك، ثم خرجت من عند الأمير، فخرجت معها زوجة الأمير، ولم تفارقها طول ذلك النهار، وقد أخذت تسألها عن أمرها وتخبرها عما جرى لأبيها بعد ضياعها، فذكرتها بوفاته فبكت عليه، وأخبرتها زوجة الأمير أنه لم يعد من أسرتها أحد؛ لأن والدتها توفيت بعد وفاة والدها بقليل، فتكدرت جميلة لذلك.
أما غريب فلبث لا يعلم شيئا من حكاية والده، حتى إنه لما جاء سعيد لوداعه عجب من ذلك وسأله: «إلى أين أنت ذاهب؟» فقال: «إلى مصر.» فسأل والدته عن سبب سفره، فقالت: «قد توجه بأمر خاص من الأمير بشير إلى عزيز مصر»، فصدقها.
أما سعيد، فإنه سار قاصدا إلى مصر وبيده كتاب الأمير، وقد عقد النية على ألا يعود إلى لبنان قبل أن يجيء بسيده حيثما كان، وكان هذا الرجل من أصحاب الغيرة والعزيمة والتدبير.
فلما وصل إلى القاهرة، عاودته ذكرى الأيام التي قضاها فيها، وكان قد عرف شوارعها وحاراتها معرفة جيدة، وتوجه لمقابلة عزيزها فقيل له إنه في «سرايه» بشبرا منذ بضعة أيام، فسار إليه. فلما وصل إلى باب «السراي» قابله الحارس وسأله عن غرضه فقال: «بيدي كتاب لسيادة الباشا، وأريد أن أسلمه إليه يدا بيد.» فاستأذنوا الباشا فقال: «ليحضر!» فدخل سعيد وفي يده كتاب الأمير، فقبل يد الباشا، فأخذ محمد علي باشا الكتاب وفضه وقرأه، ثم التفت إلى سعيد قائلا: «هل أنت سعيد خصي أمين بك؟» قال سعيد: «نعم نعم يا سيدي.» فقال الباشا: «وأين كنت إلى الآن؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن سيدك قد سار إلى الأقطار السودانية طلبا للموت، بعد أن يئس من الحياة؛ لأنه لم يعلم مقر زوجته، ففضل الانتحار، ورأى أن يسير إلى حيث يكون عرضة للموت، لعله يموت شريفا، فعرض علي رأيه هذا، فنصحت له أن يعدل عن هذه الأفكار فأبى، فبعثته مع حملة كانت متجهة إلى السودان لمساعدة ابني إسماعيل، قائد الحملة هناك.»
فلطم سعيد وجهه قائلا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!» ثم أطرق هنيهة وقال: «لا بأس، لعله بخير، وهل تعلم يا سيدي أين يكون الآن على وجه التقريب؛ لأن السودان بلاد واسعة؟» فأجابه الباشا: «في الغالب أنه يكون ما بين الخرطوم وسنار أو قبل ذلك بقليل، ولكن ما الفائدة من هذا السؤال؟»
فقال سعيد: «مرادي أن أسير إليه بنفسي لعلي أظفر به، أو أصاب بما أصيب هو به!» فقال الباشا: «ولكن هناك أخطارا جمة ومشقات عظيمة إذ لا يستطيع الرجل أن يسير منفردا في تلك الأصقاع.» فتبسم سعيد قائلا: «إن عبدك أيها العزيز يعرف الأصقاع السودانية شبرا شبرا، وأعرف لغة تلك البلاد وكل عاداتها، وفي نيتي أن أدخل بينهم كواحد منهم، وأبلغ ما أستطيع تبليغه من الأنباء السرية إلى قواد جنابكم هناك إن شاء الله.»
وقبل سعيد يد الباشا، بعد أن أخذ منه كتاب توصية لابنه، فجعل ذلك الكتاب في بطانة حذائه إخفاء له، وقد اختلج قلبه في صدره خوفا على سيده من الانتحار، أو الوقوع في مأزق يؤدي إلى هلاكه، فقضى بقية ذلك اليوم في التأهب للمسير، وعمد إلى شحم، دهن به جلده كما يفعل السودانيون، وجدل جدائل الشعر وأرخاها متلبدة على رأسه بعد أن دهنها بالشحم، وجاء بشملة من القطن واشتمل بها، وهي قطعة مستطيلة من نسيج الصعيد تبلغ عشرة أذرع، وهو أسود فلم يستطع أحد أن يميزه عن أهل السودان في شيء، واشترى جملا سريع الجري عليه رحل خفيف، وعلق في كل من جانبيه قربة من الماء، وأعد كل ما يحتاج إليه المسافر إلى تلك البلاد، وكتب رسالة إلى بيت الدين ينبئهم بما تم له وبعزمه على السفر.
Bilinmeyen sayfa