وانتظرت حتى تجف تماما، ثم طويتها، وأخرجت زجاجة الكوكاكولا من الرمل، وأدخلت رسالتي فيها ثم أغلقت فوهة الزجاجة إغلاقا محكما. تأكدت تماما أن كنسوكي كان لا يزال منهمكا في الصيد، ثم انطلقت. وأخذت أجري من أول الجزيرة إلى آخرها ملتزما دائما بالغابة، حتى لا تتاح لكنسوكي فرصة رؤية المكان الذي أقصده أو ما عقدت العزم عليه، وكانت قرود الجيبون تعوي باتهاماتها لي طول الطريق، والغابة توقوق وتصرخ بإدانتي. كل ما كنت أرجوه ألا ترد ستلا على ذلك بنباحها فتكشف مكاني، لكنها لحسن الحظ لم تنبح.
ووصلت أخيرا إلى الصخور أسفل تل المراقبة. وجعلت أقفز من صخرة لصخرة حتى أصبحت أقف في أقصى أطراف الجزيرة، والأمواج تتكسر عند أقدامي. ونظرت حولي، فلم أجد شاهدا علي سوى ستلا، وقذفت بالزجاجة إلى أبعد مدى استطعته في البحر، ثم وقفت أنظرها وهي تتواثب بعيدا فوق صفحة ماء البحر وقلت في نفسي لقد بدأت الرحلة.
لم أستطع أن أذوق حساء السمك الذي قدمه لي كنسوكي ذلك المساء، فظن أنني مريض. لم أكن قادرا تقريبا أن أتحدث إليه، ولم أستطع أن أجعل عيني تواجه عينيه. وظللت راقدا طول الليل في عذاب ممض يؤرقني الإحساس بالذنب، ومع ذلك - وفي نفس الوقت - آملا، على استحالة الأمل، أن يلتقط أحدهم زجاجتي.
كنت مع كنسوكي نقوم بالرسم في عصر اليوم حين دخلت ستلا الكهف بخطى خافتة. وكانت زجاجة الكوكاكولا في فمها، وألقت بها أمامي وتطلعت إلي، وهي تلهث وتشعر بالسعادة والزهو بما فعلت.
وضحك كنسوكي وانحنى ومد يده فالتقط الزجاجة، وأعتقد أنه يوشك أن يعطيها لي عندما لاحظ وجود شيء فيها. وأدركت من الطريقة التي حدجني بها بنظره ، بل تأكدت أنه عرف على الفور ما كانت تحتويه.
الفصل التاسع
ليلة السلاحف البحرية
هبط بيننا صمت طويل أليم. لم يؤنبني كنسوكي قط على ما فعلت. لم يكن غاضبا مني أو متجهم الوجه معي. ولكنني كنت أعرف أنني جرحت مشاعره جرحا عميقا. لم نمتنع عن التحادث معا - بل كنا نتحادث - ولكننا لم نعد نتحادث بالروح التي كنا نتحادث بها من قبل. كان كل منا يعيش في شرنقته الخاصة، ملتزمين بالسلوك المهذب، والتأدب دائما، لكننا لم نعد «معا» كما كنا من قبل. كان قد انغلق على نفسه، وحبس نفسه في أفكاره الخاصة. ذهب الدفء من عينيه، وحل الصمت محل الضحك في الكهف. لم يصرح بذلك قط، فلم يكن بحاجة إلى التصريح، لكنني عرفت أنه يفضل الآن أن يرسم وحده، وأن يصيد السمك وحده، وأن يكون وحيدا.
وهكذا كنت أقوم كل يوم بالتجول في الجزيرة مع ستلا، وأنا أرجو أن أجده عندما أعود وقد صفح عني، وأن نعود أصدقاء مثلما كنا. ولكنه كان دائما يحافظ على المسافة التي تفصل بيننا. وحزنت حزنا عميقا على صداقتي الضائعة. وأذكر أنني كنت كثيرا ما أذهب في تلك الفترة إلى طرف الجزيرة الآخر، إلى تل المراقبة، وهناك أجلس زمنا طويلا، ولم أعد أرقب مرور السفن بالجزيرة، بل كنت أجرب بصوت عال ما أقدمه له من تفسير أو إيضاح لما فعلت، ولكنني مهما حاولت وجربت، لم أكن أستطيع أن أقنع حتى نفسي أن ما فعلته كان يمثل شيئا آخر سوى الخيانة. والذي حدث آخر الأمر، على أية حال، هو أن كنسوكي نفسه هو الذي شرح الأمر لي.
كنا قد أوينا إلى الفراش لتونا ذات ليلة عندما جاءت السعلاة توموداكي إلى باب الكهف وجلست القرفصاء عنده. كانت قد فعلت ذلك مرة أو مرتين قبل ذلك في الآونة الأخيرة، وكانت تجلس دقائق معدودة وحسب، وتتطلع إلينا ثم تمضي إلى حال سبيلها. وسمعت صوت كنسوكي في الظلام يقول: «إنها تفتقد كيكانبو من جديد» ثم أضاف: «إنها دائما ما تفتقد صغيرها . كيكانبو طفل شرير جدا. كثيرا ما يهرب، ويجعل توموداكي أما حزينة جدا.» وصفق بيديه ليصرفها صائحا، ثم هتف: «كيكانبو ليس هنا يا توموداكي. ليس هنا أقول.» ولكن توموداكي ظلت في مكانها. وأظن أنها كانت تريد التسرية عن نفسها أكثر من أي شيء آخر، وكنت قد لاحظت من قبل أن السعالي كانت كثيرا ما تأتي إلى كنسوكي عندما تكون قلقة أو خائفة، لا لشيء إلا للشعور بالاطمئنان إلى جواره. وبعد فترة انسلت توموداكي خفية في جنح الليل وتركتنا وحدنا من جديد، يفصلنا صخب الغابة والصمت.
Bilinmeyen sayfa