وعندما وصلنا إلى قرب نهاية الشاطئ اضطررنا إلى أن نضرب في شعاب الغابة نفسها. وهنا وجدت طريقا ضيقا أستطيع السير فيه، وأصبحت الغابة في هذه اللحظة صماء ظلماء تنذر بالأخطار . توقفت أصوات العواء ، وحل محلها شيء أشد إنذارا بالشر؛ أصوات ارتجاف أوراق الأشجار، وقعقعة تكسير الغصون، وخشخشات خفية مفاجئة، وكانت جميعا قريبة مني وتحيط بي في كل مكان. وعرفت، بل أصبحت على ثقة تامة، أن هناك عيونا تراقبنا. كان هناك من يقتفي خطانا.
وأسرعت الخطى وأنا أحاول قدر الطاقة أن أبتلع مخاوفي. وجالت بخاطر صور قردة الجيبون التي رأيتها في حديقة الحيوان، وحاولت أن أقنع نفسي بأنها كانت تبدو بريئة أبعد ما تكون عن إيذاء أحد. وقلت في نفسي: لسوف تتركنا وما نحن فيه ولن تهاجمنا أبدا؛ إنها لا تأكل لحم البشر، ولكنه عندما زاد اقتراب أصوات الخشخشة، وزاد ما يكمن فيها من نذر الخطر، ازدادت صعوبة إقناع نفسي بما أقول، وبدأت أجري، وظللت أجري حتى انتهى الطريق بنا إلى الصخور، إلى ضوء النهار الرحيم الجميل، ورأيت البحر من جديد.
كان هذا الطرف من طرفي الجزيرة يبدو ساحة تناثرت فيها الجلاميد الهائلة القائمة مثل الصخور السامقة التي سقطت على طول البحر. وجعلنا نثب من جلمود إلى جلمود، وقد ركزت بصري بحثا عن قطرات المياه التي يمكن أن تصبح جدولا يجري بين الصخور منحدرا من الغابة العالية، لكنني لم أجد شيئا.
وشعرت آنذاك بالإرهاق الشديد. فجلست لأستريح، وقد جف حلقي وأحسست برأسي ينبض ويخفق، وعذبتني خواطر اليأس فقلت ربما أموت عطشا وربما مزقت القرود جسمي وقطعتني إربا إربا.
وتطلعت عينا ستلا إلى عيني، فقلت لها: «لا بد أن يكون هنا ماء، لا بد.» وقالت عيناها: إذن، ماذا تفعل بجلوسك هنا تتأسى على حالك؟
أرغمت نفسي على الوقوف وواصلت المسير. كانت مياه البحر في الغدران بين الصخور باردة ومغرية، وذقتها، لكنها كانت ملحة ومرة غليظة، فلفظتها من فمي فورا. كل من يشربها يصاب بالجنون. كنت متأكدا من ذلك.
كانت الشمس قد هبطت في السماء عندما وصلنا إلى شط البحر على الجانب الآخر من الجزيرة، ووفقا لحساباتي لم نكن قطعنا سوى نصف المسافة حول الجزيرة. كان هذا المكان أكبر كثيرا مما بدا لي من موقعي فوق التل السامق هذا الصباح. وعلى كثرة ما بحثت وفتشت لم أجد أي ماء، ولا طعام. لم أكن أستطيع الاستمرار في السير، ولا ستلا، كانت ترقد متمددة بجواري على الرمال وهي تلهث من فرط الجهد. كان لا بد لنا من قضاء الليل حيث كنا، خطر لي أن أدخل الغابة قليلا حتى أرقد على الأرض تحت الأشجار، وقد أستطيع أن أصنع لنفسي فراشا من الأوراق الجافة اللينة، فأرضية الغابة زاخرة بها، ولكنني لم أجرؤ على المغامرة بالدخول، خصوصا وظلال الليل تهبط بسرعة على الجزيرة.
وكانت أصوات العواء قد بدأت من جديد في أقاصي الغابة، فبدت أنشودة مساء رخيمة أخيرة، واستمر ذلك الغناء دون توقف حتى غشي الظلام الجزيرة كلها. وكانت أصوات أزيز وأنين الحشرات (أو ما افترضت أنها حشرات على أية حال) تصلني من الغابة. وسمعت أصوات نقر أجوف، مثل أصوات طائر نقار الخشب إذا انهمك في نقر جذع شجرة بمنقاره. وسمعت أصوات صرير وخدش ونخر وحز مثل نقيق الضفادع، كانت فرقة الغابة الموسيقية كلها تضبط أوتارها، ولكن مصدر خوفي لم يكن الأصوات، بل العيون الخفية مثل الأشباح، كنت أريد أن أبتعد قدر طاقتي عن تلك العيون، فوجدت كهفا صغيرا في أحد طرفي الشاطئ، أرضيته من الرمل الجاف.
واستلقيت على الأرض وحاولت النوم، ولكن ستلا لم تسمح لي بالنوم، إذ ظلت تئن إلى جواري من ألم الجوع والعطش، فلم أستطع أن أنام إلا نوما متقطعا.
كانت الغابة تطن وتوقوق وتنعق، ولم يتركني البعوض طول الليل كذلك. كان يئز فوق أذني فيصيبني بالجنون، وسددت أذني بيدي حتى لا أسمع أصواته. وتكورت حول ستلا، محاولا أن أنسى أين كنت وأن أغرق نفسي في أحلامي، وتذكرت عندئذ أن اليوم عيد ميلادي، وذكرت آخر عيد ميلاد لي في الوطن مع إدي ومع مط، وحفل الشواء الذي أقمناه في الحديقة، وطيب رائحة السجق الرائعة. وخلدت إلى النوم أخيرا.
Bilinmeyen sayfa