قال همام: الفتنة فتنة خليل، وهو أصل الفساد، والمغري والدك بفؤاد، فقطع الله هذا الرجل الشرير الخبيث النية، ولعن الله كل لئيم خبيث وكل ساع بالإثم زنيم.
قال سعيد وقد أنكر هذا الطعن: جاوزت الحد في ثلبك، فلعلك نسيت أن خليلا كان لنا نسيبا.
قال همام: لئن كان لك نسيبا، فإنك لم تعرفه حق المعرفة، وإلا لكفيت نفسك عناء المدافعة عنه، فهو غير أهل لذلك، ولو عرفت حقيقته وما انطوى عليه من الخبث والخبائث لما استطعت أن تنطق بأحرف اسمه قبل الاستعاذة بالله منه، كما يستعاذ بالرحمن من الشيطان الرجيم، وظننت أني جاوزت الحد في ثلبه، فوالله إنك لو علمت غدره ومكره وخبثه وأوصافه الذميمة لثلبته مثلي، وانظر كيف كان يتلبس بالتقوى، ويلتزم السكوت، ويلبس السواد موهما أن حزنه على امرأته وهو في الحقيقة واجد ولهان حزين على فقد عفيفة، ألا تذكر يوم كنا في حديقة الأزبكية نتناول طعامنا فحضر الرجل، وجرى الحديث في زينة ضريح كريمة عمتك، كيف أنه اضطرب وصاح من فرحته متهللا: عفيفة لم تمت، ثم نهض من حينه عاجلا إلى القرافة طامعا برؤيتها بعد طول الغيبة؟ فليت والدك يعلم الخبر فيعدل عن عداوتنا، ويقوم بيننا وبينكم الصلح والوفاق، ثم لا يخفى عليك ما تلبسون من العار في شيوع هذه المسألة بين الناس، فعفيفة قريبة لك فاحرص عليها أن تهلك أسى وغدرا بكف خليل كما هلكت أمها من قبلها، ثم تذكر يوم القرافة إذ هجم على فؤاد وكاد يجرعه كأس الحمام بخنجره المسلول لولا حضوري وعناية الرحمن، أيفعل هذا الفعل به حزن على امرأته، ألا ترى من ذلك هياج الحب والغيرة؟
فضرب سعيد على رأسه بيده وقال: لا بد أن يكون الأمر كما ذكرت، فإني فضلا عن هذا كنت أسمع خليلا ينطق كثيرا باسم عفيفة فيضطرب ويكتئب، وتحمر عيناه، فيبتدئ بالتخريف قولا بغير هدى، وقد كنت في الأمس معه أتنزه من جهة قصر العالي، وإذ بفؤاد قد مر راكبا مع عفيفة عربة مقفلة فتغير وجهه، وحاول تركي ليهجم عليه فيقتله، ولكنني منعته بمنتهى قوتي وعزمي، وهذه الأفعال لا تصدر إلا عن شهوة الحب لا عن الحزن على فقد زوجة يكرهها.
قال همام: الأمر جلي، لا يحتاج إلى برهان، فالرجل مولع بعفيفة كلف بهواها، ولا شك أنه من أكبر المجرمين إذ افتكر بانتهاك حرمة شابة محرمة عليه، ربيت في حضنه طفلة فاعتبرته لها والدا، فلما ترعرعت شرهت نفسه الخبيثة بافتضاحها على فقد الولي والنصير، فلما توسمت منه الخيانة والغدر ولت مدبرة تفضل احتمال العذاب الأليم على الوقوع في شركه، فكان الأولى بك وبوالدك أن تأنفا من قبول هذا الرجل في المنزل عندكم، وأن تستمعا أقواله الكاذبة وإشاراته الخبيثة، وحسبه أنه قتل امرأته قهرا، ويحاول انتهاك حرمة ابنتها غدرا، وهو عار عظيم عليكم.
قال سعيد: أتأسف على معاشرتي هذا الرجل وإصغائي إلى كلامه، فوالله إني لم أحسب أنه يبلغ هذه الدرجة من اللؤم والخيانة، فمعاذ الله أن أصحبه بعد هذا اليوم، فقد سقطت بيننا المناسبة والقرابة بوفاة عمتي من غير أن تترك ولدا منه، فهو دائما لدينا كسائر الغرباء البعداء، أما عفيفة فهي قريبتي نسبها نسبي، يمسنا كل ضرر يمسها، ويلحقنا كل عار يصيبها، وكانت تحضر إلى المنزل عندنا كثيرا في حياة والدتها، وهي على جانب عظيم من الأنس والبداهة والأدب ولطف الكلام ودعة القلب، فمن الواجب علينا إغاثتها وإنقاذها من أيدي الماكرين الخبثاء، فوالله إني لأرتعد بجملتي حين أفتكر كيف عزمنا على تسليمها إلى ذلك الشرير الغادر يفعل بها ما يعلم الله.
قال همام: لو فعلتم لكان نصيب البنت منه نصيب النعجة من الذئب، وتكونون أنتم الجالبون على أنفسكم الفضيحة بأيديكم، على أني أعلمك بأن فؤادا قد استلم البنت من يدي أمها فأحسن معاملتها، وأتى عليه خمسة أشهر فلم يخرج عن الأدب والعفاف، فكأنه والد شفيق أو أخ رفيق، ولو أنصفتم لرأيتم أنه أدى إليكم معروفا كبيرا وجميلا يستوجب الشكر، إذ حفظ شرف عائلتكم من الضياع، فمن الواجب عليكم مقابلة الإحسان بالإحسان، بدلا من اتهامه بالسوء والسعي في إضراره وتنكيله، ولا ريب أن خليلا هو الذي حمل والدك على سوء الظن بفؤاد ابتغاء الزلفى وتوسلا لنوال الإرب، فيقضي من عفيفة وطرا، ولكن على الباغي تدور الدوائر، ومن نصب لغيره شركا وقع في الشرك الذي نصب، والله يرد كيد الباغي في نحره. إن عفيفة موجودة الآن عند شقيقتي سيدة، فلو رأت عليها أقل شبهة أو ريبة لما قبلتها في منزلها، وبالغت في إكرامها وتسلية خاطرها، وشقيقتي مشهورة بالحذق ودقة النظر، وتقدير الأمور قدرها، فلو لم تجد فيها الكمال والأدب والطهارة لقابلتها بالصدود والطرد، فحسبك ذلك برهانا قاطعا لعرق الشك ومزيلا لكل ريبة، ودافعا لكل ظن خبيث.
قال سعيد: شرحت - والله - صدري، فقد عرفت فؤادا كامل الأوصاف جميل السجايا، فلم يخلف ظني، ومن النادر وجود مثله بين الشبان ناشئا على المبادئ الصحيحة والمقاصد الجميلة المنيفة، وما أتاه من الصنيع الجميل لا يكاد يصدق، فليت شبان زمانه يقتدون به ويقتفون أثره، فحقا لقد زاد اعتباري له وإخلاصي لعفيفة، وأصبحت في مزيد شوق لرؤياها ومصافحتها.
قال همام: تحقق لدينا أن فؤادا وعفيفة بريئان مما نسب إليهما، فوجب علينا أن نبذل المجهود في إصلاح ذات البين والتوفيق بين أهلنا وأهلك، وتحقق أن خليلا هو المضلل المفسد ومصدر الفتنة والنميمة، فيجب إبعاده وإقصاؤه، وعلى والدك أن يجبر ما كسر، ويصلح ما فرط منه في حق فؤاد وعفيفة، وعندي لا وجه لذلك إلا بأحد أمرين: إما بزواج بسعدى أختك، وإما بعفيفة بنت عمتك، ولكل من الأمرين ملاحظات خصوصية، أما زواجه بعفيفة فيعرضه لرشق الظنون الخبيثة، ويتخذ الناس ذلك دليلا على أن في سابقة الأمر غشا وخديعة، وبعكس ذلك لو تزوج أختك سعدى فإن ألسنة الناس تلجم عن القدح به، وتثبت لدى العامة والخاصة براءة عفيفة، وعلى سائر الأحوال فتزوجه بسعدى أفيد له - بسبب غناها الكثير - من زواجه بعفيفة على قلة مالها وفقر حالها.
قال سعيد: بل الأجدر به أن يتزوج بعفيفة على فقرها، فإنه يحبها وعينه تقر بها، وسأبذل جهدي في سبيل إقناع أبي لعله يقبل مني الرأي، فيخصص قسما من ماله لجهازها جزاء حسنا عن صونها العرض وحفظها على الطهارة والأدب، وفي بعض الحال غنى عن الكل، والله هو الغني الكريم.
Bilinmeyen sayfa