فإذا علمتم هذا، فاعلموا أن العدل والحق والواجب والضمير لو كانت مجهولة لوجب اختراعها، ولو كانت أوهاما مخترعة لوجب اتباعها؛ لأن العدل فوق المصلحة، والحق فوق القوة، والواجب فوق الهوى، والضمير فوق الشريعة، فمتى أردنا أن نظفر بالمصلحة، ونتصرف بالقوة، ونتمتع بالهوى، ونصون الشريعة، فعلينا بما فوقها، علينا بالعدل والحق والواجب والضمير.
أنا لا أنهج أيها السادة نهج المجادلين، فأتتبع كل كلمة قالها الثعلب بالتفنيد، وأبطل كل حجة أتى بها، وأدحض كل رأي ندب إليه، كأن الحق لا يقوم بين اثنين حتى يكون أحدهما مصيبا لا موضع عنده للخطأ، أو مخطئا لا موضع عنده للصواب، فقد أرى الصواب في كثير مما قال الثعلب، وأوافقه على معظم مقدماته بل على ظاهرها كله، ولكني أراه عرف شيئا وغابت عنه أشياء، وربما نظرت مثله إلى العالم فألفيته طافحا بالشر، مكتظا بالرذيلة، حتى إذا نظرت إلى النتائج البعيدة والغايات الأبدية احتجب الشر عني، فلا أرى إلا خيرا محضا.
فأما أن القوة عماد الحياة وأساس الحق وبغية كل نفس، وأنه يحل لها ما لا يحل لغيرها، ويدرك بالجور والغدر أحيانا ما لا يدرك بالعدل والوفاء، فهذا صحيح لا ريب فيه، ولكن أية قوة؟ وإلى أي حد؟
ليست القوة ضربا واحدا ولكنها قوتان: قوة السيل الجارف العرم، تجتاح السدود، وتدمر الصروح، وتهلك الحرث والنسل، وتطغى على العامر فتخربه، وعلى الغامر فلا تعمره، ثم تسيح على وجه الرمال فتذهب جفاء وينتهي بذلك أمرها، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وهذه قوة الخراب.
وقوة الينبوع العذب المتفجر الفياض، تنسرب في مجاريها، وتسري سريان الدم في العروق، فتروي العطاش، وتصلح الموات، وتنبت على ضفافها الخيرات، وتنشأ فوقها المدن الآهلة، فيها سكن للناس ومستراد، والمروج الناضرة فيها مسرة للناظرين ورزق للعباد؛ وهذه قوة العمار.
القوة قوتان: قوة البخار الهائم تعمي الأبصار هبوته، وتلفح الوجوه وقدته، وتتبدد في الهواء حركته، ثم يمحى أثره وتغيب عن الأبصار صورته؛ وهذه القوة الطائشة.
وقوة البخار المضطرب في المراجل، يسير الجبال، ويضاعف ثمرات الأعمال، ويصل الغرب بالشرق والجنوب بالشمال، ينهض بما لا تنهض به الألوف المؤلفة من السواعد والمعاول، ويقضي في ساعة ما لم يكن يقضى في الدهر المتطاول؛ وهذه القوة الحكيمة.
القوة قوتان: قوة الطاغية الغشوم، والجبار الظلوم، يسوق الصفوف اللجبة تصخب بالحياة فإذا هي جثث يحوم عليها الحمام، ويطرق المدائن الفخمة فتندك آكاما على آكام، وركاما من فوقه ركام، ثم يقف فوق الأشلاء الممزقة والكواهل المرهقة، يعجب بما بلغت إليه قدرته على الخراب والإرهاب، ويختال بما أوتيه من سطوة التنكيل والعذاب؛ وهذه قوة الهمجية.
وقوة الجواد الغيور، يرى المساكين يدلحون بالعبء فيسره أنه قادر على رفعه، ويبصر الضعفاء يئنون من الظلم فيطربه أنه زعيم بدفعه، وينظر العتل الجهول شامخا بأنفه فيلذ له أن يطأه بقدمه، ويسمع دلال المحامد ينادي عليها في سوق الفخار فيشتريها بلحمه ودمه، ويقصده الناس فيرى أنهم أقروا له بنهاية القدرة ساعة عرفوه بحاجتهم إليه، ووفوه أجره حين مدوا أيديهم مستعينين به، ثم يقف بين غرس أياديه وثمار مساعيه، فيستروح من شكر الناس له غبطة لا يستروح مثلها ذلك العتل من خشيتهم إياه؛ وهذه قوة المدنية.
فيا من يعبد القوة! أي القوتين أحق بالسيادة وأولى من الخلق بالعبادة؟
Bilinmeyen sayfa