إنا لا نخاف الانتحار إلا لأنا نحب الحياة، ولا نحبها على ما هي حافلة به من الكوارث والمحن إلا لأننا جهلاء أغبياء، نطمع في غير مطمع ونرجو ما لا يمكن أن يكون، فمثلنا في ذلك كمثل لاعب القمار، يزداد طمعا في الربح كلما ازداد خسارة، فلا يزال يخسر، ولا يزال يطمع، حتى تصفر يده من كل شيء.
إنا لم نأت إلى هذا العالم باختيارنا فلم لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنا لم نكتب على أنفسنا عهدا بين يدي أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر فلم يسمى سعينا في الخلاص منه خيانة وغدرا، أو كفرانا بنعمة الله وإحسانه؟
إنها هفوة هفاها «شيشرون» الروماني في ذلك العهد القديم حينما قال: «إن كان لصاحب الراية في الحرب حق في إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق في قتل نفسه.» وجاراه المجتمع الإنساني كله على هفوته هذه حتى اليوم، دون أن يخطر على بال فرد من أفراده أن يقول له: إن لصاحب الراية الحق كل الحق في إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه.
وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه، وافتنوا في تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلي عبدا من عبيده ببلية لا تطيب له معها الحياة، ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها مدى الدهر، ولا يبتغي لنفسه طريقا إلى الخلاص منها.
وكذلك صحت عزيمته على الانتحار، وأخذ يفكر في الصورة التي يفارق الحياة عليها فلم يزل يقلب وجوه الرأي في ذلك حتى اهتدى إلى صورة أعجبه خيالها الشعري، هي أن يكتب كتابا إلى ماجدولين يبثها فيه آلامه وأحزانه ويحدثها عن عزمه على الانتحار، وعن المكان الذي سيلقي نفسه فيه من النهر، ثم ينزع من أصبعه خاتمه المنسوخ من شعرها ويضعه على فمه ويضع يده عليه ويقبله بلهفة شديدة، ثم يلقي بنفسه في الماء على هذه الحالة، فإذا أتت ماجدولين وأخرجته من النهر ورأت هذه الصورة المحزنة التي مات عليها أثر في نفسها إخلاصه ووفاؤه، وأسفت على موته أسفا عظيما، وألم بنفسها الندم على فعلتها التي فعلتها معه، فلا تزال تذكره طول حياتها وتندب مصرعه ومصيره حتى تلحق به.
وهنا رنت في أذنه تلك الضحكة العالية التي سمعها منها منذ ساعة وهي راكبة عجلتها مع زوجها، فطار ذلك الخيال من رأسه واضمحل في مسراه اضمحلال الأبخرة الذاهبة في آفاق السماء، وعادت له أناته ورويته وقال في نفسه: إن من كان مثلها في خيانتها وغدرها وصلابة قلبها وقسوته، لا يبالي ما أقدم عليه من شئونه، فربما ورد عليها كتابي فأغفلته ثم سمعت بخبر موتي فتنفست تنفس الراحة والدعة واغتبطت بينها وبين نفسها بانقشاع تلك الغيمة السوداء التي كانت تغشى سماء حياتها، وأعجبها أنها قد أصبحت آمنة مدى الدهر أن يذكرها مذكر بخيانتها، أو يتراءى لها في مسلك من مسالكها شبح تلك الجناية متى اقترفتها.
ثم أن أنة مؤلمة وقال: «ويل لي من بائس مسكين! لقد استحال علي كل شيء حتى الموت.» (72) السعادة
قال «فرتز» لاستيفن - وقد ركب معه في زورقه ساعة الأصيل فسار بهما يشق عباب الماء شقا: رفه عليك قليلا يا سيدي، فذلك أمر قد فات واستبد به من قدر له، وليس في فائت حيلة ولا لما قضى الله مرد، ولو شئت أن أقول لك لقلت: إنه غير جميل بك في فضلك وأدبك، ووفور عقلك واكتماله، وعزة نفسك وأنفتها أن تحبس حياتك كلها على امرأة قد علمت ألا خير لك فيها، وأنها قد خانتك وخذلتك، وبلغت بك في الشقاء المبالغ التي لم يبلغها أحد، وطعنت قلبك تلك الطعنة النجلاء التي يثل منها جريحا إلا بمعونة من رحمة الله وإحسانه، وإنها - وأنت تشقى هذا الشقاء كله في سبيلها - تقضي ساعات ليلها ونهارها بين ذراعي زوجها هانئة مغتبطة، غير حافلة بك ولا آسفة عليك، ولا ذاكرة لك ذمة ولا عهدا، فأين شرفك وإباؤك؟ وأين عزة نفسك وأنفتها؟ وأين ترفعك الذي أعرفه لك ويعرفه لك الناس جميعا عن مواطن المهانة والضعة؟ الحق أقول إني لا أعرف سهما أخيب من سهمك، ولا رأيا أضعف من رأيك، ولا حياة أضيع من حياتك.
لقد سلبتك هذه المرأة يا سيدي زهرة عمرك، فحسبك ذلك واستبق لنفسك ما بقي منه، وتمتع فيه بما أعد الله لك في هذه الحياة من لذائذ ومتع لا تنفد ولا تبلى، واطلب السعادة إن أردتها بين أحضان الطبيعة وأعطافها، وفي كل ما يحمل بساط الأرض وتظلل قبة السماء، فالطبيعة أم حنون تضم بين ذراعيها أولادها البؤساء المحزونين فتمسح همومهم عن صدورهم، ودموعهم عن مآقيهم، وتملأ قلوبهم غبطة وهناء.
اطلب السعادة في الحقول والغابات، والسهول والجبال، والأغراس والأشجار، والأوراق والأثمار، والبحيرات والأنهار، وفي منظر الشمس طالعة وغاربة، والسحب مجتمعة ومتفرقة، والطير غادية ورائحة، والنجوم ثابتة وسارية، واطلبها في تعهد حديقتك، وتخطيط جداولها، وغرس أغراسها، وتشذيب أشجارها، وتنسيق أزهارها، وفي وقوفك على ضفاف الأنهار، وصعودك إلى قمم الجبال، وانحدارك إلى بطون الأودية والوهاد، وفي إصغائك في سكون الليل وهدوئه إلى خرير المياه، وصفير الرياح، وحفيف الأوراق، وصرير الجنادب، ونقيق الضفادع، واطلبها في مودة الإخوان وصداقة الأصدقاء، وإسداء المعروف، وتفريج كربة المكروب، والأخذ بيد البائس المنكوب، ففي كل منظر من هذه المناظر، أو موقف من هذه المواقف، جمال شريف طاهر يستوقف النظر، ويستلهي الفكر ويستغرق الشعور، ويحيي ميت النفس والوجدان، ويملأ فضاء الحياة هناء ورغدا.
Bilinmeyen sayfa