قيل: كان أبو العباس يطيل السهر ويعجبه الفصاحة ومنازعة الرجال، فسهر ذات ليلة وعنده أناس من مضر وفهر وفيهم خالد بن صفوان بن الأهتم التميميّ وناس من اليمن فيهم إبراهيم بن مخرمة الكندي، فقال أبو العباس: هاتوا واقطعوا ليلتنا بمحادثتكم. فبدأ إبراهيم بن مخرمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخوالكم هم الناس وهم العرب الأول الذين دانت لهم الدنيا وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكًا وأربابًا، توارثوا الرئاسة كابرًا عن كابر وآخرًا عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون بيت المجد ومآثر الحمد، منهم النعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلّم الذئب، ومنهم من كان يأخذ كل سفينة غصبًا ويحوي في كل نائبة نهبًا، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس من شيء وإن عظم خطره وعرف أثره من فرس رائع وسيف قاطع أو مجنٍّ واق أو درع حصين أو درّة مكنونة إلا وهم أربابها وأصحابها، إن حلّ ضيف أقروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر، فمن مثلهم يا أمير المؤمنين؟ البيت يمانٍ والحجر يمان والركن يمان والسيف يمان. فقال أبو العباس: ما أرى مضر تقول بقولك هذا وما أظن خالدًا يرضى بذلك. فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت المواخذة تكلمت. فقال أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحدًا. فقال خالد: يا أمير المؤمنين خاب المتكلم وأخطأ المتقحّم إذ قال بغير علم ونطق بغير صواب، أوَيفخر على مضر ومنها النبي، ﷺ، والخلفاء من أهل بيته؟ وهل أهل اليمن يا أمير المؤمنين إلا دابغ جلدًا وقائد قردًا وحائك بردًا؟ دل عليهم الهدهد وغرّقهم الجرذ وملكتهم أم ولد من قوم، والله يا أمير المؤمنين ما لهم ألسنة فصيحة ولا لغة صحيحة ولا حجة تدل على كتاب ولا يعرف بها صواب، وإنهم منّا لإحدى الخلتين إن حازوا ما قصدوا أُكلوا وإن حادوا عن حكمنا قُتلوا. ثم التفت إلى الكندي فقال: أتفخر بأكرم الأنام وخيرها محمد، ﷺ، وبه افتخر من ذكرت، فالمنّ من الله ﷿ عليكم إن كنتم أتباعه وأشياعه فمنا نبي الله المصطفى وخليفة الله المرتضى ولنا السودد والعلى وفينا الحلم والحِجَا ولنا الشرف المقدم والركن المكرم والبيت المعظم والجناب الأخضر والعدد الأكثر والعز الأكبر، ولنا البيت المعمور والمشعر المشهور والسقف المرفوع وزمزم وبطحاؤها وجبالها وصحراؤها وحياضها وغياضها وأحجارها وأعلامها ومنابرها وسقايتها وحجابتها وسدانة بيتها، فهل يعدلنا عادل ويبلغ فخرنا قائل، ومنا أعلم الناس ابن عباس أعلم البشر الطيبة أخباره الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النور، ومنا الصدّيق والفاروق، ومنا أسد الله وسيف الله، ومنا سيد الشهداء وذو الجناحين، ومنا الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، بنا عُرف الدين ومن عندنا أتاكم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه ومن فاخرنا فاخرناه ومن بدّل سنّتنا قتلناه. ثم التفت إلى الكندي وقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: أنا بها عالم. قال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين. قال: فما الميزم؟ قال: السّنّ. قال: فالشناتر؟ قال: الإصبع. قال: فالصنانير؟ قال: الآذان. قال: فما القلوب؟ قال: الذئب. قال: فما الزُّبّ؟ قال: اللحية. قال: أفتقرأ كتاب الله ﷿؟ قال: نعم. قال: فإن الله ﷿ يقول: " إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا "، وقال: بلسان عربي مبين، وقال جل ذكره: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه "، وقال ﷿: " العين بالعين "، ولم يقل الجحمة بالجحمة، وقال: " جعلوا أصابعهم في آذانهم "، ولم يقل شناترهم في صنانيرهم، وقال: السن بالسن، ولم يقل الميزم بالميزم، وقال: فأكله الذئب، ولم يقل القلوب، وقال: لا تأخذ بلحيتي، ولم يقل بزبي، وأنا سائلك يا ابن مخرمة عن ثلاث خصال فإن أنت أقررت بها قُهرت وإن جحدتها كفرت وإن أنكرت قتلت. قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي الله المصطفى، ﷺ؟ قال: اللهم نعم. قال: أتعلم أن فينا كتاب الله تعالى؟ قال: اللهم نعم. قال: أفتعلم أن فينا خليفة الله المرتضى؟ قال: اللهم نعم. قال: فأي شيء يعدل هذه الخصال؟ قال أبو العباس: اكفف عنه فوالله ما رأيت غلبة أنكر منها، والله ما فرغت من كلامك يا أخا مضر حتى إنه سيُعرج
1 / 45