ثم كتب معاوية إلى علي، ﵀: أما بعد فإنا لو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرُمّ به ما مضى ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك طاعة فأبيت ذلك علي وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس وإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ولا خاف من الفناء إلا ما أخاف، وقد والله رقّت الأجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لأحد منا على أحد فضل نستذلّ به عبدًا أو نسترقّ به حرًا.
فأجابه علي: من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فقد جاءني كتابك وتذكر أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وأنا وإياك نلتمس غايةً لم نبلغها بعد، فأما طلبك الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك عنه أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلستَ بأمضى على الشك مني على اليقين وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن وليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المحق كالمبطل، في أيدينا فضل النبوة التي قبلنا بها العز ونفينا بها الخزي.
عن الشعبي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس فلما رآه مقبلًا استضحك فقال: يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك وأدام سرورك وأقر عينك، ما كل ما أرى يوجب الضحك! فقال معاوية: خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق فحمل عليك عليّ بن أبي طالب، ﵁، فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وأبديت عورتك كيف حضرك ذهنك في تلك الحال، أما والله لقد واقفته هاشميًّا منافيًّا ولو شاء أن يقتلك لقتلك! فقال عمرو: يا معاوية إن كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضحك، أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لأوجع قذالك وأيتم عيالك وأنهب مالك وعزل سلطانك، غير أنك تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي، أما إني قد رأيتك يوم دعاك إلى البراز فاحولّت عيناك وأزبد شدقاك وتنشّر منخراك وعرق جبينك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره. فقال معاوية: حسبك حيث بلغت لم نرد كل هذا.
قال: وذكر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ﵁، قال: زعم ابن النابغة أني تلعابةٌ تمزاحةٌ ذو دعابة، أعافس وأمارس، لا رأي لي في الحروب، هيهات يمنع من العفاس والمراس ذكر الموت والبعث، فمن كان له قلب ففي هذا عن هذا واعظ، أما وشر القول الكذب إنه ليحدّث فيكذب ويعِد فيخلف، فإذا كان البأس فأعظم مكيدته أن يمنح القوم استه.
قال: وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله يوم صفين: تبين لي هل ترى علي بن أبي طالب، ﵁؟ قال عبد الله: فنظرت فرأيته فقلت: يا أبت ها هو ذاك على بغلة شهباء عليه قباء أبيض وقلنسوة بيضاء. قال: فاسترجع، وقال: والله ما هذا بيوم ذات السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا يوم أجنادين، وددت أن بيني وبين موقفي بُعد المشرقين. فنزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو قالا: والله لئن كان صوابًا إنه لعظيم مشكور، ولئن كان خطأً إنه لصغير مغفور. فقلت له: يا أبت فمن يمنعك من الذي فعلا؟ فوالله ما يحول بينك وبين ذلك أحد! فقال: إن يرجع الشيخ ولم يُعذّر إذ نزل القوم بضنك فانظر، ثم تأمل بعد هذا أو ذر.
وقال بعض الشعراء في معاوية ومحاربته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
قد سرت سير كليبٍ في عشيرته ... لو كان فيهم غلامٌ مثل جسّاس
الطاعن الطعنة النجلاء عاندها ... كطرّة البُرْدِ أعيا فتقها الآسي
عبد الله بن السائب قال: جمع زياد أهل الكوفة يحرضهم على البراءة من علي، كرم الله وجهه، فملأ منهم المسجد والرحبة، قال: فغفوت غفوة فإذا أنا بشيء له عنق مثل عنق البعير أهدل أهدب، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلى صاحب القصر. فانتبهت فزعًا، فما كان بأسرع إذ خرج علينا خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير في شغل عنكم اليوم، فإذا هو قد فلج، فقال عبد الله في ذلك:
ما كان منتهيًا عما أراد بنا ... حتى تأتّى له النّقّادُ ذو الرقبه
فأسقط الشقَّ منه ضربةٌ ثبتت ... لمّا تناول ظلمًا صاحب الرّحبه
أراد أنه قتل في رحبة المسجد.
1 / 24