6 (17) بيد أن هذه الانتقادات وأمثالها التي انصبت على جوانب «عدم الاتساق» لم تمنع النقاد من الإشادة ب «الجديد» في هذه الأوبرا والأوبرا التي سبقتها (القروش الثلاثة) والتي لحقتها بفترة زمنية طويلة (وهي إدانة أو محاكمة لوكو للوس التي كانت في الأصل تمثيلية إذاعية ثم تحولت إلى أوبرا في سنة 1951م). وحقيقة التجديد هنا أنها أوبرا «ملحمية» مختلفة تمام الاختلاف عن الأوبرا التقليدية، التي يصفها برشت وصفا لاذع السخرية بأنها أوبرا «مطبخية» تهدف إلى إدماج المتفرج أو المستمع في التجربة وإغراقه في وهم الاستمتاع السلبي بدلا من حفزه على اتخاذ موقف نقدي وثوري واع مما يراه ويسمعه بحيث يشارك رواد هذا الفن العريق في تغيير المجتمع من جذوره وتجاوز الواقع السائد إلى واقع أكثر تقدما وعدلا وإنسانية.
ولكن هل معنى هذا أن ماهاجوني ضد المتعة والتجربة الوجدانية والعقلية والمواقف الفلسفية التي يتيحها فن الأوبرا الرفيع، على الأقل في بعض نماذجه الكبرى - مثل الناي السحري ودون جوفاني وفيجارو وفيديليو - التي لم تكن «مطبخية» خالصة؟!
الواقع أن الأوبرا الملحمية ينطبق عليها ما ينطبق على المسرح الملحمي من الناحيتين النظرية والعملية. ولست في حاجة إلى نقل الجدول المشهور الذي يضع فيه «برشت» الشكل الدرامي التقليدي أو الأرسطي للمسرح في مقابل شكله الملحمي أو الجدلي والثوري؛ إذ طالما ورد هذا الجدول في الدراسات التي وضعت بالعربية عن مسرح برشت أو في الترجمات التي تمت عنه إلى حد الملل
7
فقضية التجديد في الأوبرا كما في المسرح تتجاوز التجديدات الشكلية والتقنية وتتعلق أساسا بالنظرة المختلفة إلى الوظيفة الاجتماعية للمسرح من حيث هو مؤسسة فنية وتعليمية وأخلاقية ينبغي أن تشارك مشاركة جادة في التحول التاريخي والاجتماعي نحو واقع متقدم ومتطور وإنساني على الحقيقة (لا من باب التظاهر والنفاق والزهو بالأقنعة «الثقافية» الزائفة كما يحدث حتى الآن في معظم المجتمعات الرأسمالية والصناعية المتقدمة وفي معظم المجتمعات النامية - أو النائمة في غيبوبتها الطويلة - إن لم يكن فيها جميعا!) هذا التغيير في النظرة إلى الأوبرا وغيرها من الفنون يستجيب بغير شك لمطالب الطبقات الشعبية التي أصبح من حقها أن تستمتع بالفنون - وبخاصة فن الأوبرا - الذي ظل مقصورا على الطبقة الأرستقراطية ردحا طويلا من الزمن؛ أي إنه يلبي حاجة أصيلة إلى إضفاء الطابع الديمقراطي عليها، شريطة ألا تكون هذه الديمقراطية من النوع الذي يقر حقوق الشعب ويمنعه في الوقت نفسه من ممارستها! والأهم من إتاحة فرص استمتاع الطبقات الشعبية المحرومة بالأوبرا هو بطبيعة الحال أن تؤدي دورها بجانب الفنون والمؤسسات الثقافية الأخرى في التعجيل بتغيير المجتمع القائم من جذوره - إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الرأسمالية - وتدعيم وجهة النظرة الاشتراكية الثورية، ونقد سلبيات التطبيق ومعوقاته إذا تم عرضها في مجتمع يأخذ بالاشتراكية. ومجمل القول إن «ماهاجوني» أوبرا تمتع المتفرج الذي يسعى إلى المتعة والتجربة الوجدانية لذاتها، فالفن الذي لا يمتع المتلقي لا بد أن يكون فنا فاشلا، ولكن الفرق بينها وبين سائر الأوبرات التقليدية هو أن مضمونها وتشكيلها وموسيقاها وبقية أدواتها «التقنية» تنطوي على عناصر عقلانية وثورية تؤدي - بلغة الجدل - إلى «رفع» المتعة الوجدانية والانفعالية البحتة أو إلغائها أو على الأقل «تنويرها» و«توظيفها » لتحقق الهدف الاجتماعي الأساسي من الفن، وهو تغيير المجتمع القائم وتعزيز التفكير الواعي المستقل والنقد العقلي والموضوعي للتناقضات القائمة؛ أي متعة الثورة على الأوضاع غير الإنسانية التي تنتج الاغتراب وتكرسه، ومن ثم تكون - بلغة الجدل مرة أخرى! - هي متعة نفي النفي أو سلب السلب!
8 (راجع ما سبق قوله عن المشهد الثالث عشر الذي يأكل فيه شميت النهم حتى يسقط ميتا) ومعنى هذا في النهاية أن يغدو الاستمتاع موضوعا للنقد، وهذا نفسه موضوع الاستمتاع، ولكن هل يمكن أن يجرب الإنسان وينفصل في الوقت نفسه عن تجربته ليتأملها وينقدها؟! وحتى إذا جاز هذا الانفصال أو الإغراب بالنسبة للمثل والمتفرج في المسرح الملحمي - وهو أمر تشكك فيه أكثر النقاد وتعذر في تقديري تحقيقه في معظم أعمال برشت على الرغم من كل الأسباب النظرية والعملية التي حشدها له! - فهل يتسنى هذا للأوبرا التي يتركز فيها انتباه المتلقي عادة على الغناء والموسيقى أكثر بكثير من التركيز على المضمون؟ إن برشت لا يعدم الإجابة على هذه الأسئلة. فلو وضعت الموسيقى والمناظر والمؤثرات المختلفة في خدمة المضمون ولم تصبح هي الغاية - كما حدث في رأيه مع التجديدات التي أدخلت على أوبرات فاجنر - لخرجت الأوبرا التقليدية من عزلتها الأرستقراطية ولم تبق أوبرا مطبخية وحسب. ولكن هل نجحت ماهاجوني والقروش الثلاثة في تحقيق هذا الطموح؟ هنا تقتضيني الأمانة أن أتوقف عن الكلام. فلم يتح لي أن أشاهد أيا منها في دور الأوبرا، كما أن معلوماتي عن الأوبرا بوجه عام لا تسمح بأن أفتي بغير علم فيما لا أعرف ولا أتذوق؛ إذ اقتصر حبي للموسيقى الغربية حتى الآن على الموسيقى الكلاسيكية، كما أن تجاربي مع الأوبريت والأوبرا لم يزد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة، وربما يكون المعنيون بالأوبرا لبرشت أو غيره أقدر مني على الكلام عن إمكان عرضها على مسارحنا بعد تكييفها لظروفنا، أو إمكان الاستفادة من أسلوبها وهدفها في إبداع أوبرات أو أوبريتات عربية تؤدي الوظيفة الاجتماعية المتوخاة منها (بصرف النظر عن أن فن الأوبرا لم يستطع حتى الآن أن يستميل الأذن العربية والمصرية، أو يؤكد حضوره في وجدان الأغلبية الساحقة من شعبنا) ومن يدري؟ فلعل التفكير في أوبرا محلية بنفس المفهوم الذي أراده لها برشت أن يكون خطوة أولى على طريق توطين هذا الفن العظيم في أرضنا. ولا أنسى في نهاية عرضي لهذه المسألة أن أذكر القارئ بالمحاولة التي قام بها في السبعينيات المرحوم نجيب سرور عندما قام باقتباس أوبرا القروش الثلاثة وتقديمها على مسرح البالون تحت اسم «الشحاتين». وإذا كان هذا العرض لم يكتب له التوفيق في حينه، فليس ما يمنع من استلهامه أو تكراره في صورة جديدة، وفاء لذكرى هذا الشاعر الملحمي الأصيل. (18) إذا صح وصفنا لهذه الأوبرا بأنها «يوتوبيا-مضادة» تقدم صورة لاسعة السخرية والقسوة إلى حد التشويه والتشهير بالمجتمع الرأسمالي، وأنها تتضمن في الوقت نفسه ملامح الأصل الذي تحيل إليه بشكل غير مباشر - وهو «اليوتوبيا» الاشتراكية أو الشيوعية التي تعلقت بها أحلام برشت وجيله، وسخروا لتحقيقها كل الوسائل المتاحة والأسلحة الممكنة في كفاحهم الفني والأدبي والثوري، ولقوا في سبيلها ما لقوا من ألوان الاضطهاد والنفي والتشريد والتعذيب - فلا بد من أن نقف قليلا عند مفهوم «اليوتيوبيا» ونضعها كذلك في تراث صاحبه وفي سياق التاريخ الأيديولوجي والثوري الذي توقف قلبه فجأة عن النبض وانطفأ حريقه الكبير أمام أبصارنا وأسماعنا، وكأنما انقضت عليه صاعقة ثلجية مباغتة فجرته وحولته - على الأقل حتى الآن - إلى شظايا ورماد.
ولا بد قبل هذه الوقفة عند «اليوتوبيا» والفكر اليوتوبي من التمهيد لها ببعض الملاحظات الضرورية لإضاءة النص في أبعاده المختلفة بقدر الإمكان. وأول هذه الملاحظات يتصل بالشكل الأدبي الذي اختاره المؤلف. فالمعروف أن اليوتوبيا - أي الصورة الأدبية والفنية المتخيلة للنظام الاجتماعي والسياسي الأفضل والأمثل - قد ظهرت في أثواب مختلفة وقامت بأدوار متنوعة وجربت كل الأشكال الأدبية المعروفة كالمحاورات والرسائل والرحلات واليوميات والروايات والمسرحيات، بجانب المقالات والبحوث الفلسفية والاجتماعية الجادة في بعض الأحيان. وقد كان من الطبيعي أن تتنوع أهدافها كما تنوعت أشكالها ومضامينها الفكرية والسياسية، فتقصد إلى التهكم من «لامعقولية » الوجود الإنساني وامتناع وصوله للكمال والتجانس والسعادة، أو إلى الهروب من الواقع السائد المشوه نفورا منه وعجزا عن تغييره وإصلاحه إلى أرض الأحلام - كما يقول عنوان كتاب جميل لأستاذنا الجليل زكي نجيب محمود
9 - بغية التسلي بألعاب خيالية أو التعبير عن أشواق يائسة أو تقديم رؤى للتأمل الخالص والتفكير الممتع، أو لمجرد كتابة قصة فلسفية أو قصة مما يسمى بأدب الخيال العلمي (الذي يصعب علي التسليم بانتمائه للأدب إلا في القليل النادر من نماذجه!) ولا شك أن تجربة الشكل الأوبرالي بالإضافة إلى الأشكال السابقة سيبقى محل الدهشة والاستغراب. ولكن لو تمعنا الأمر قليلا لوجدنا أنه إضافة حقيقية للأدب اليوتوبي، لا سيما إذا تذكرنا أنها أوبرا ملحمية وليست أوبرا عادية أو «مطبخية».
وثاني هذه الملاحظات أن الأوبرا التي بين أيدينا عمل تشوبه من الناحية الفنية والأدبية أوجه نقص عديدة، لعل أوضحها هو التصنع والمبالغة والاختزال، والبعد عن الواقع التاريخي والموضوعي إلى حد التجني، واللغة الباردة المحشوة بالشتائم والسباب والسخرية «الكلبية» المألوفة في معظم كتابات برشت، والتسييس المتعمد للمادة الأدبية إلى حد تحويلها إلى مظاهرة صاخبة في اللوحة الختامية، وغير ذلك من جوانب الضعف التي عرضنا لها على الصفحات السابقة. وربما يشفع للمؤلف أن الروائع الأدبية الحقيقية بالغة الندرة في تراث الأدب اليوتوبي، وذلك لصعوبة الكتابة عن عالم شديد الكمال أو عالم شديد النقص؛ لأن كليهما سكوني وغير تاريخي ومصطنع، يخلو عادة من الصراعات الحية التي تشكل مادة الأدب، فضلا عن أن الشخصيات اليوتوبية تكون في معظم الأحيان شخصيات مختزلة مجردة أو أنماطا عامة مفتقرة إلى سمات الفردية الحميمة. وإذا كان من الواجب الاحتراز من الوقوع في التعميم الذي يظلم بعض المواقف الإنسانية المؤثرة في هذه الأوبرا - مثل مناجاة «جين» لنفسها ومشاهد الحوار مع حبيبها باول أكرمان ومشاهد إعدام هذا الأخير - فإن الإنصاف يقتضينا القول بأن الذنب في التصنع والتجريد يقع جزئيا على الأقل على رأس النمط اليوتوبي نفسه الذي سيظل انتماؤه للأدب موضع جدل ونقاش إلى أن تفرض الروائع الحقيقية ذاتها، ويبقى أهم عذر لهذه الأوبرا ولمحاولة تقديمها للقارئ العربي، وهو أنها قد أثارت في حينها ولم تزل قادرة على إثارة مناقشات طويلة حول الرأسمالية والاشتراكية ، والتقدمية والرجعية، وطبيعة التفكير الأيديولوجي نفسه والدور الذي قامت به الأيديولوجيات على اختلافها في تخريب الأدب والفن والحياة طوال العقود الأخيرة من القرن العشرين (وهذا رأي خاص ربما أعود إليه بعد قليل) والأهم مما سبق أنه إذا كان التاريخ السياسي الحديث - على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور - قد كذب رؤية برشت التنبئية بانهيار الرأسمالية والانتصار «الحتمي» للاشتراكية، فإن القيمة الأساسية التي لا تزال هذه الأوبرا تحتفظ بها في تقديري المتواضع، أنها توقظ فينا الوعي الشقي بحاضر المدينة البشرية، وتلقي جمرة مستعرة على ضرام قلقنا المتزايد على مصيرها ومستقبلها، والآمال الهشة في إنقاذها من السقوط والاندثار تحت أقدام زبانية القوة والمال والعلم والتعصب والدهاء والإرهاب المقنع بأقنعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في «النظام» العالمي الجديد، بهذا تكون «ماهاجوني» شهادة لها قيمتها على محنة عصرنا ومحنه المحتملة إن لم تسرع البشرية العاقلة المسئولة بالتفكير والعمل الجدي لإقامة المدينة الإنسانية الممكنة - ولا أقول المثالية أو الفاضلة! - على أرضنا البائسة المبلية بالتلوث والاستبداد وتخريب البيئة واتساع ثقب الأوزون ... إلخ مع اتساع الفك الغربي الرأسمالي المفترس بقيادة «الكاو-بوي» المتباهي بجبروته «وإنسانيته». (19) ويضيق المجال بطبيعة الحال عن وضع هذه الأوبرا بصورة مرضية في مكانها من تراث صاحبها أو من التراث اليوتوبي الذي فاضت «أدبياته» حتى أصبحت بحرا لا شاطئ له، ولكن ربما تكفي الإشارة الموجزة إلى أن برشت لم يقدم فيما أعلم عملا يوتوبيا خالصا يضمنه تصوره لمدينة المستقبل الفاضلة وأفكاره السياسية والاجتماعية والثورية في ثوب أدبي وبلغة فنية. ومع ذلك فقد أحال عليها - كما سبق القول - بطريقة غير مباشرة تشبه طريقة «برهان الخلف» عند المناطقة؛ أي بتصوير الضد الرأسمالي والفاشي لتلك «اليوتوبيا» التي ترك لقرائه أن يرسموها بخيالهم ويؤسسوها ويرفعوا بناءها بعرق أيديهم ودماء تضحياتهم وتصميم إرادتهم وجهد عقولهم وقلوبهم المبدعة. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن هذه المدينة المثالية كانت بالنسبة له ولجيله موجودة بالفعل ومعتكفة أو عاكفة - وراء ما سماه الغرب «البرجوازي» بالستار الحديدي - على نسج الحلم الكبير الذي تعلقت به قلوب ملايين الحالمين الثوريين المضطهدين في بلادهم، الشاخصين بأبصارهم وأفئدتهم إلى الأم الاشتراكية (في الاتحاد السوفيتي السابق)، واللائذين بأحضانها بعد ذلك من طغيان ذئاب الفاشية وأعداء الحياة والسلام والإنسانية. ولا شك أن مآسي التجربة الاشتراكية الكبرى لم تتكشف تماما لهؤلاء الحالمين الثائرين إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعلموا شيئا عن أهوال التصفيات ومعتقلات التعذيب والمقابر الجماعية وبشاعة الآلة المباحثية ... إلخ إلا بالتدريج وبعد أن عاشوا في ظل النظم الشرقية التي أجبرت على الدوران في فلك «الأم»، والمهم في هذا السياق أن برشت حين مر بهذه التجربة الأليمة في السنوات القليلة التي قضاها قبل وفاته (1956م) فيما كان يسمى بجمهورية ألمانيا الديمقراطية؛ كان قد أتم أهم أعماله الشعرية والمسرحية والقصصية والنظرية. وكلها واضحة الدلالة على انصراف جهده إلى رسم «اليوتوبيا الرأسمالية المضادة» من جميع جوانبها وبأبشع ملامحها؛ ففي المرحلة التعبيرية المبكرة نجد الفردية الفوضوية والعدمية التي أنبتتها مدينة المال والأعمال متمثلة في شخصية «بعل» 1922م، كما نجدها تسحق الفرد المطحون العائد من الحرب بلا مأوى ولا بيت ولا مستقبل في «أحراش المدن» 1924م و«طبول في الليل» 1929م، وفي المرحلة التعليمية - التي تندرج فيها من الناحية التاريخية والفنية أوبرا القروش الثلاثة 1928م، وماهاجوني 1929م - نراه يحرص على تدمير تلك المدينة الظالمة الفاسدة، والثأر من أبطالها المزيفين في الماضي والحاضر، وإنزال أقسى العقاب ب «الدعاة» والمروجين المتخاذلين، وذلك في قائل نعم وقائل لا (1930م) و«الاستثناء» والقاعدة ومحاكمة لوكولوس (1939م) ومسرحية بادن-بادن التعليمية عن التفاهم و«الإجراء». وهو في هذه المرحلة الناضجة المتأخرة يبين استحالة أن يعيش الإنسان الطيب في هذه المدينة، واضطراره أن يضع قناع الشر والدهاء والاستغلال لكي يتمكن من التعامل مع سكانها كما في «الإنسان الطيب في سيتشوان» 1924م، ويثبت كذلك استحالة اكتشاف الحقيقة العلمية وإذاعتها في مدينة إرهابية يحكمها رجال الدين المتزمتون، ويحاكمون علماءها الذين يضطرون لإنكار الحقيقة أو التراجع عنها إنقاذا لعلمهم وحياتهم (جاليليو جاليلي 1934م) وهو يقيم الحجة - بعد عرض الدليل الملحمي الطويل - على أن الطفل لمن يربيه لا لمن ينجبه، وأن الأرض لمن يفلحها لا لمن يملكها (كما في دائرة الطباشير القوقازية 1949م)، وأن الإنسان الغبي لا يتعلم أبدا، حتى لو كلفه ذلك أبناءه؛ لأن هذه المدينة تعتبر البشر سلعة والحرب تجارة (كما في الأمم شجاعة 1941م) وأن المجانين المأفونين يمكنهم - إذا توافرت لهم وسائل البلطجة الكافية! - أن يروعوا مدينة بأكملها ويلفقوا «نظاما» دمويا ينفي كل نظام ويلغي كل حرية وحياة؛ وذلك كما في مسرحيته «الصعود الذي يمكن أن يوقف لارتورو-أوي» (1941م) والخوف والارتعاش في ظل الرايخ الثالث 1945م، إلى آخر أعماله التي يعرفها القارئ أو يعرف معظمها من أصولها أو ترجماتها الميسرة، بل إلى سائر أعماله المسرحية التي أقتبسها وأعدها إعدادا جديدا عن مؤلفين مشهورين، مجندا ذلك كله في حربه العادلة التي أعلنها على الفاشية (مثل أنتيجونا لسوفوكليس، وكوريولانوس لشكسبير، والأم لماكسيم جوركي، وجان دارك التي طالما تناول قصتها أدباء مختلفون). (20) وأما عن وضع هذه الأوبرا في التراث اليوتوبي، واليوتوبي المضاد الذي لا أشك في أنها تأثرت به بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فإن ذلك أمر لا مناص منه لأي عمل أدبي مهما حاول أن يقاطع التراث أو يعلن رفضه له وثورته عليه، على الرغم من أن تحديد ذلك الوضع شيء بالغ الصعوبة والتعقيد. ولا يمكننا أن نتصور غياب التراث اليوتوبي الممتد عن ذهن برشت، لسبب بسيط أنه تراث «أيديولوجي» غني بالرؤى والنظريات والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية التي دعا معظمها وأهمها إلى المجتمع الشيوعي أو الاشتراكي المثالي، وإذا كان هو وجيله، أو على الأقل دائرة أصدقائه المقربين من الفلاسفة والأدباء اليساريين المجددين قد آمنوا بالاشتراكية «العلمية»، فإن هذه الاشتراكية لم تخل من عناصر يوتوبية وتنبئوية مهما احتج الكثيرون من أنصارها على هذا الزعم، كما أن اليوتوبيا «الواقعية»؛ أي الشيوعية التي ستحقق مجتمع الحرية والأخوة والعدالة والمساواة والسلام وتكون هي «الثمرة» الأخيرة الناضجة على شجرة الكفاح البشري والتاريخ الحضاري الممتد للوعي الإنساني - بل والتاريخ الكوني السحيق للمادة نفسها! - هذه اليوتوبيا «الواقعية»، التي ستكون بمثابة «الوطن» والمأوى و«الأمل» الذي سيتحقق معه «الكل» والوحدة ويتصالح فيه الإنسان مع الطبيعة، ويتلاقى الوجود والماهية (إلى آخر ما أفاض فيه صديق برشت الحميم «أرنست بلوخ» 1858-1977م، في كتابه الأكبر مبدأ الأمل (من 1954 إلى 1959م) وفي سائر مؤلفاته) لا يمكن بالطبع أن نتصور وجودها أو أن نفكر فيها إذا نحن بترنا جذعها وفروعها عن بذورها وجذورها. وهذه البذور والجذور قد نمت وتشربت الماء والغذاء على مدى تاريخ طويل ممتد من حكايات الشعوب وأساطيرها عن «ماض ذهبي» ضاع ويمكن أو لا يمكن أن يستعاد، إلى جمهورية أفلاطون وقوانينه وكتابات أخرى عديدة في العصر اليوناني، وبعض التصورات في العصر الوسيط عن مدينة المستقبل الإلهية - كمدينة الله للقديس أوغسطين - والمدينة «الفاضلة» المندمجة في بناء ميتافيزيقي فيضي وصوفي تحت رئاسة رئيس نبوي حكيم، كما عند الفارابي، إلى «اليوتوبيات» بمعناها الدقيق، كما عبرت في عصر النهضة عن النزعة الإنسانية الجديدة ووعيها بذاتها وثقتها بالعقل والمعرفة والمستقبل بأقلام فلاسفة مشهورين هم توماس مور وتوماسو كامبانيلا وفرنسيس بيكون، إلى صف طويل من الروائيين والمصلحين الاجتماعيين والاشتراكيين المثاليين والمنظرين السياسيين من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، وصولا إلى القرن العشرين الذي ازدهرت فيه اليوتوبيات الجديدة المؤمنة بالاشتراكية المعتدلة - ومن أشهرها اليوتوبيات الحديثة للكاتب الإنجليزي ه. ج. ولز - كما تفتحت أروع زهورها السوداء في العديد من اليوتوبيات المضادة، ومن أشهرها وأجملها الروايتان البديعتان اللتان ترجمتا لحسن الحظ ترجمة ممتازة إلى اللغة العربية، وهما عالم شجاع طريف لألدوس هكسلي، و1984 لجورج أورويل.
إن جمرات الإصلاح والنقد والتغيير التي توهجت بومضات الاشتراكية والشيوعية في «يوتوبيا» توماس مور (1478-1535م) ومدينة الشمس لكامبانيلا (1568-1639م) على الرغم من ارتدائها مسوح الرهبة! قد توقدت بدرجات مختلفة في سائر اليوتوبيات المثالية منذ عصرهما وعلى امتداد ما يقرب من ثلاثة قرون (راجع من فضلك الملحق التالي )، حتى اشتعلت كالحريق الكبير مع ظهور «البيان الشيوعي» لكارل ماركس وفريدريش إنجلز سنة 1848م، واستيلاء الثورة البلشفية على مقاليد الحكم في روسيا سنة 1917م، وذلك قبل أن تأكل نفسها وتتفجر بدوي هائل كبركان الحمم الذي دفن تحته آمال الملايين من الثوريين والمتحمسين والأيديولوجيين والحالمين والمقهورين والمهانين الذين طالما لجئوا إليه وأسندوا ظهورهم عليه (خصوصا في عالمنا الثالث أو الجنوب الذي بدأ «الشمال» يتحرش به تمهيدا للانقضاض عليه!) وإذا كان من الصعب التنبؤ في أوقات المحن والكوارث بما سيكون عليه مستقبل المدينة البشرية في المستقبل البعيد أو القريب، فإن من الضروري وضع هذه الأوبرا وغيرها من الأعمال والإنجازات في سياقها التاريخي والاجتماعي والفكري الذي نشأت فيه، حتى يتسنى الحكم المنصف عليها وتمييز الصالح منها للبقاء وتحدي تقلبات النظم وشروط التاريخ من الزائل المرهون بالظروف والمناسبات، ولا شك عندي أن في هذه الأوبرا - وفي الكثير من أعمال برشت - ما يشهد على عظمة الشاعر والكاتب المسرحي وانتصاره على الأيديولوجي الماركسي وتجاوزه لحدوده وقيوده الضيقة. (21) ونصل لمحاولة الوفاء بوعدنا للقارئ بتقديم شرح شديد الإيجاز لكلمة «اليوتوبيا» التي رددناها كثيرا حتى الآن. وترجع هذه الكلمة إلى كلمتين يونانيتين هما «أويتوبوس» (أي المكان الطيب أو الصالح) وأو-توبوس (أي اللامكان). وقد انعكست هذه الازدواجية في المعنى على الكتابات اليوتوبية؛ فكانت في بعض الأحيان رؤى عن مجتمعات صالحة يمكن تصورها والاقتداء بها، وفي أحيان أخرى تخيلات حالمة أو وهمية مجردة لنموذج اجتماعي كامل ومستحيل، وإن لم يكف الإنسان عن أن يحلم به في صور وتجارب مختلفة. أضف إلى هذا كله أن البعد اليوتوبي - إذا جاز هذا التعبير - كامن في وجود الإنسان، ملازم لجوهره وحقيقته. فهو الكائن الهش الممزق بين حاضر لم يحقق فيه ذاته الفردية والجماعية، ومستقبل يطمح أن ينجز فيه الكل الذي يعبر عن ماهيته. وما من إنسان يخلو من درجة من الوعي بأنه لم يصبح هو نفسه بعد، وأنه ما يزال على الطريق إلى كينونته. بل إن هنالك من يجعل هذه «الليس بعد» مقولة وجودية أو أنطولوجية كما يقول الفلاسفة مستخدمين اللفظ اليوناني، ويذهب إلى أنها تميز الوعي البشري في كل مظاهره وتجلياته الحضارية عبر التاريخ، كما تصدق على المادة الغنية بإمكانات التفتح والازدهار في أشكال متجددة على الدوام (على نحو ما عرف أرسطو المادة بأنها وجود بالقوة أو استعداد وإمكان، وتصورها بعده فلاسفة عديدون من ابن سينا وابن رشد إلى بعض فلاسفة عصر النهضة والعصر الحديث حتى أصحاب المادية الجدلية التي كان برشت ملتزما بها).
Bilinmeyen sayfa