تقديم
(1) للمدن، كما للبشر، أقدار ومصائر، تولد المدينة وتنمو وتزدهر، ثم يصيبها ما يصيب الكائن الحي فتضمحل قواها وتتدهور، أو تداهمها كارثة طبيعية أو غزوة همجية فتندحر وتندثر. كان السومريون - الذين استقروا في جنوب أرض النهرين منذ الألف الرابعة قبل الميلاد ووضعوا النماذج الأولية للثقافة والفن والأدب في حضارة وادي الرافدين القديمة - أول من عرف أدب بكاء المدن، وخلدوا دموعهم وحسراتهم عليها في نقوشهم وألواحهم الطينية بالخط المسماري. ومرثية أور - المدينة السومرية الشهيرة التي اكتشفت كنوز مقبرتها الملكية في عام 1926م - تعبر بلسان ملكتها الإلهية «ننجال» عن الأسى والرعب الذي ملأ قلبها عندما شعرت بالنهاية المحتومة لمدينتها، وأحست بأن مجمع الآلهة على وشك إصدار قراره بضربها وتدميرها، والقضاء على شعبها، وتسليط العاصفة والطوفان عليها. ها هي الملكة التي رأت علامات الشؤم في كل مكان تنخرط في النواح والعويل كالحمامة المذعورة التي تتوقع هبوط النسر الذي يحوم وسط السحب السوداء وينذر بالانقضاض على عشها والتهام أفراخها:
عندما كنت - وكلي حزن وأسى - أتوقع يوم العاصفة ذاك، يوم العاصفة المقدر لي، وكلي دمع وبكاء، يوم العاصفة الظالم المكتوب علي أنا المرأة، لم يكن لي مهرب من اليوم المحتوم ذاك.
ارتجفت وارتعدت في تلك الليلة، حط الخوف على كاهلها من تدمير العاصفة الشبيهة بالطوفان، وقضت الليل في فراش الدمع المر، وقد حرمت الأحلام كما حرمت النسيان، وبعد أن تأكدت من عجزها عن استعادة شعبها - «حتى ولو بسطت جناحي كالطير، وكالطير طرت لمدينتي» - ويئست من إنقاذ مدينتها وإبعاد يوم العاصفة عنها، توجهت إلى الآلهة بالضراعة، وأغرقت في الدموع أسئلتها المترحمة ل «آنو» كبير آلهة المجمع السماوي ولإنليل رب العواصف الغضوب: ألا يجوز لمدينتي ألا تدمر؟ ألا يحق لأهلها ألا يذبحوا؟ ولكن «آنو» لاذ بالصمت ولم يتلفت لكلماتها، وإنليل لم يفه ب «يسرني ذلك فليكن ما تريدين.» لتهدئة روعها، لقد أمرا بأن تدمر «أور»، ولم يرجعا عن قرارهما بأن يقتل أهلها كما نص القدر. وهكذا سقطت المدينة صريعة تحت أقدام البرابرة «الجوتيين» ونفذ الآلهة عزمهم على تغيير أيامها وخططها، ورفعوا ألواحهم الملكية عنها وأعادوها للسماء، وانقلبت بعد ذلك طرق سومر الحضارية رأسا على عقب، وتوالى خراب مدنها بسبب عدوانها المستمر على بعضها أو بفعل الغزاة المتوحشين حتى درست رسومها وانقرضت شعوبها، وتحولت بيوتها وأبراجها ومعابدها وعمائرها إلى أطلال مع أواخر الألف الثانية قبل الميلاد.
1 (2) لم تكن «أور» أول مدينة يخبرنا التاريخ المكتوب عن مأساة سقوطها، ويسجل الشعراء والكتاب المجهولون من أبناء سومر أو آكد رثاءهم لها؛ إذ وجد أقدم نموذج لأدب بكاء المدن مدونا على لوح طيني عثر عليه بين أطلال مدينة لجش «أولكش-السومرية»، ونقش عليه وصف دمارها الفظيع على يد عدوتها القاسية مدينة «أوما» التي طالما اشتبك الصراع بينهما على الحدود، كما كان يحدث عادة بين دول المدن في حضارة وادي الرافدين القديمة. ولن تكون مدينة «ماهاجوني» - التي سيأتي الحديث عنها بعد قليل - هي آخر «القرى» التي حق عليها الفساد والدمار والهلاك، ولا آخر المدن التي نزلت بها المحن والنكبات، إما لعجزها عن الاستجابة الملائمة للتحديات التي واجهتها، كما يقول أحد فلاسفة التاريخ وهو توينبي. أو لوقوعها تحت أقدام الغزاة الأجانب وضربات الكوارث الطبيعية والبشرية؛ من براكين وزلازل وأعاصير وسيول وقحط وجفاف، أو طواعين ومجاعات، وأوبئة وحرائق وثورات وكوابيس عسكرية تؤدي جميعها إلى تساقط البشر، وافتراس بعضهم لبعض وتسلط بعضهم على بعض، وسحق كل نبتة أو نبضة توحي بحياة أو حرية أو سعادة، وتنصيب أشباح الإرهاب والطغيان والظلم والرعب والقهر والعقم والملل والاغتراب وسائر أفراد العائلة المشئومة ملوكا على عروش خاوية فوق مقابر جماعية هي مدن الموتى-الأحياء. لقد حفل تاريخ البشر بعشرات القرى والمدن التي ارتفعت إلى ذرى المجد والازدهار، ثم جاءها أمر ربها بغتة وفي غفلة من أهلها فانكفأت على وجهها في حفرة الاندحار، أو هوت إلى الحضيض، كما يهوي الرأس المقطوع في سلة المحكوم عليهم بالإعدام وفوق ركام المزبلة الكبرى للتاريخ. وما دمنا بصدد الحديث عن مصير مدينة «رأسمالية» قضى عليها شيطان المال وقانونه الجهنمي الأسود بالزوال والاندثار بعد التألق والازدهار، وكنا نتنفس اليوم في جو تخيم عليه سحب السقوط والانهيار للمدن الاشتراكية وغير الاشتراكية، وتضيء سماءه المكفهرة بين الحين والحين بروق الأحلام المستحيلة والأشواق اليائسة إلى المدن «اليوتوبية» الفاضلة التي ستنعم بالحرية والعدالة والإخاء، وتخضر فيها أشجار الحب والتضامن والرخاء. ما دام الأمر كذلك فلنحاول أن نقلب معا في كتاب المدن لنعرف وجه الحلم العنيد الذي يطل علينا من وراء العصور برغم التشويه والحروق التي أصابته، ونلتمس جذور الفاكهة المرة والشوك الجارح الذي طالما أدماه وملأه بالندوب والأخاديد، ولنحلق معا على أجنحة التذكر والخيال في رحلة خاطفة نطوف فيها ببعض المدن التي لا يزال صراخ الحلم القديم المتجدد يتردد بين أنقاضها وركام أحجارها كاستغاثة اليتيم المتلهف إلى عين ترعاه وحضن يدفئه. وبعيون لم يجف منها الدمع على ضحايا الزلزال الذي ضرب أمنا القاهرة وما فتئ يهددها هي وغيرها، نتأمل أقدار مدن ارتفعت وازدهرت حتى كادت تصبح جنات على الأرض، ومصائر مدن أخرى سقطت في أزمنة أخرى واندثرت فلم يبق منها حتى الأطلال، في الوقت الذي يدق فيه أسماعنا ويطعن ضمائرنا دوي ارتجاج مدن معاصرة تخرب تحت ضربات المجاعة المخجلة للإنسانية، أو تسحق تحت أقدام الأحقاد العرقية وضغائن العصبيات القومية والدينية، بينما تضج مدن أخرى بضجيج القوى المجنونة والمجد الزائف، والرخاء الخداع، والرقص الهمجي المغرور لسادة المال والعنف والاضطراب العالمي الشامل الذي أسموه ظلما وكذبا باسم النظام العالمي الجديد. (3) ربما خطر الآن ببالك أنني سآخذك معي في سياحة خيالية إلى بعض المدن الشهيرة التي سمعت أو قرأت عنها، أو حالفك الحظ بزيارتها ورؤية معالمها، وربما رست بك سفن الذاكرة على شواطئ مدن ذاع صيت مجدها، أو بقيت فرقعة ارتطامها بصخور الهاوية عالقة بالآذان إلى يومنا الراهن؛ بابل وآشور وبيرسيبوليس وقرطاجة، طيبة وأثينا وأسبرطة وروما، دمشق وبغداد والقاهرة وفاس والقيروان ... إلخ. إن طموح الطائر الذي سنحلق على جناحيه أكثر تواضعا من أن يرفرف فوق تاريخ مدن ومدنيات يحتاج سرده إلى مجلدات، ولهاث أنفاسه المتلاحقة لا يسمح بطول المكوث عند حدائق هذه المدينة أو تلك، ولا عند أطلالها وخرائبها وأسوارها وأكوام التراب المتبقي من أفراحها ومآسيها. وسواء تصورنا أن المدنية والحضارة البشرية قد بدأت في الصين منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، أو على ضفاف النيل وبين شاطئ دجلة والفرات منذ أواخر الألف الرابعة وبداية الألف الثالثة؛ حيث تم في زمن متقارب فوق هذين المهدين الخصبين اختراع الكتابة وسن القوانين، وتقدم فنون البناء والنحت والتصوير، ووضع بذور النماذج والبنى الأصلية للأدب والعلم والدين، والعمل والزرع والحكم، والضمير والقيم وسائر مظاهر التحضر والتنور في الحضارتين المصرية والرافدية (السومرية والبابلية والآشورية) فالذي يعنينا في جولتنا السريعة، ويلفت نظرتنا الطائرة هو قدر هذه المدن الذي لم يمسك الغيب المجهول بخيوطه، وإنما صنعه البشر بكدهم وعرقهم ودمهم، وصراعهم على البقاء والرئاسة والتسلط، وغبائهم الأزلي الذي منعهم إلى اليوم من الوعي بتاريخهم والتعلم منه، كما فرضته طبائعهم المتناقضة المركبة من الخير والشر، والبناء والهدم، وقلقهم الدائم بين قطبي الحياة والموت، والطبيعة والحضارة، والعقل واللاعقل، وسمو الملائكة والشهداء والقديسين والأولياء، وحضيض التوحش والضعة والخسة والغدر الذي تقصر دونه الذئاب والعقارب والأفاعي. (4) هل نبدأ (بدول-المدن) في سومر وأكد وآشور التي ظلت تتصارع - كما سبق القول - مع بعضها وتفني بعضها بأيديها أو بأيدي الغزاة من الشمال (كالجوتيين والحوريين والحيثيين) أو من الشرق (كالعيلاميين) حتى لم يبق من قصورها وأسوارها ومعابدها الفخمة وأبراجها المستديرة سوى أحجار مبعثرة كالأشلاء الملوثة بالدم والطين؟ أخذ السومريون ينقرضون بتأثير عوامل مختلفة، وراح الآشوريون يقضون على البابليين قبل أن يدمرهم هؤلاء - في القرن السابع قبل الميلاد - بعد تحالفهم مع الميديين ثم يفنون البقية الباقية من حضارة الحيثيين في القرن الثامن قبل الميلاد، ويزحفون بإعصار الخراب والسلب والنهب والحرق على معظم جيرانهم، بينما كان الجميع - في النصف الأخير من الألف الثانية وحتى النصف الأول من الألف الأولى - يوسعون حدود إمبراطورياتهم، ويتفننون في تمزيق أعدائهم وتسوية مدنهم بالتراب، في الوقت نفسه الذي انشغلوا فيه بتشييد قصورهم ومعابدهم وبوابات مدنهم البديعة المترفة. ولك أن تتخيل تلك المدن الكبرى كما يصورها الرسامون والأثريون، وتدلف من بواباتها الفخمة المهيبة؛ مثل بوابة عشتار وأبواب طيبة الألف، وتتجول في رياض قصورها وغابات أعمدتها ومعابدها بين صفوف من الثيران والتنانين والأسود المجنحة والكباش والحيوانات ذات الرءوس الآدمية التي تكاد تسمع أصواتها وهي تقول: «كنا نحرس ونزين مدنا جبارة، لكنها لم تكن مدنا فاضلة ولا سعيدة.»
وهل نستطيع أن نتصور طروادة على شواطئ بحر إيجة - أو بالأحرى المدن التسع التي تراكمت فوق بعضها تحت تل حيسار ليك الصغير في تركيا - كيف أحرقت أكثر من مرة، وصمدت سادستها لحصار طويل في الحرب المشهورة بينها وبين اليونانيين بقيادة ملكهم أجاممنون، ثم دمرت بأيدي أعدائها قبل أن تحرق حرقا منظما في حوالي سنة 421ق. م. وهو أحد التاريخين المتواترين في القصص والتاريخ الإغريقي عن حرب طروادة التي روت أحداثها إلياذة هوميروس؟ وأسبرطة بنظامها الوحشي الصارم الذي وضع دستوره مشرعها ليكورجوس «حوالي أواخر القرن التاسع ق.م.» وتحولت إلى معسكر ضخم للتدريب الخشن الفظ على القتل والعدوان، لا يعفى منه حتى الأطفال والصبية والنساء، وقرطاجة التي بنيت فوق نتوء صخري - في الموضع الذي يقوم فيه الآن خليج تونس - على شكل حصن هائل تحوطه ثلاثة أسوار ضخمة سميكة ترتفع فوقها الأبراج الدفاعية؛ ماذا نقول عن تحديها لروما وانتصارها عليها في الحربين البونيتين بينهما (264-241، 218-210ق.م) ثم سقوطها وحرقها وإفناء كل من فيها على أيدي الرومان (149-146ق.م).
وبيزنطة ذات الأبواب السبعة على الضفة الغربية للبوسفور «أو القسطنطينية التي جعلها قسطنطين عاصمة للإمبراطورية الرومانية عام 330 للميلاد بعد دخوله في المسيحية وتعرف اليوم باسم إسطنبول»؛ تلك المدينة التي احتفظت بأبهتها وفخامة قصورها وكنائسها وقبابها الذهبية وتحصيناتها وقلاعها وأبراجها في وقت غدت فيه روما أنقاضا مملوءة بأكواخ الفقراء وعششهم، لقد حمتها أسوارها المنيعة من الغزوات المتكررة ما يقرب من ألف عام، وردت حملات الهون والفرس والآفار والعرب والفايكنج، ثم تدهورت بها الأحوال فلم تستطع أن تتقي جحافل الطامعين من الصليبيين اللاتين الذين اقتحموها في سنة 1204م. ونهبوا نفائس قصورها وتحف كنائسها، إلى أن حلت نهايتها وسقطت معها الإمبراطورية الرومانية الشرقية تحت ضغط الأتراك العثمانيين «بقيادة محمد الفاتح في التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1453م».
وبومبيي، إلى الجنوب من مدينة نابولي الإيطالية، المدينة المنكوبة التي دفنت حية تحت سيول الحمم عندما داهمها بركان فيزوف مع جارتها هيركو لانوم على الجانب الآخر منه؛ هل سمعت في تاريخ سقوط المدن وتحطمها صرخة أفظع من صرختها الخرساء التي انطلقت في اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس سنة 79م؟ لقد وقعت تحت حكم الرومان في بداية القرن الأول قبل الميلاد، ثم ازدهرت مع القرن الأول الميلادي لتصبح مع جارتها التي سبق ذكرها مدينة المتع والملذات للمصطافين من أثرياء الرومان، هذه المدينة التي لم تبدأ الحفائر في الكشف عنها إلا في عام 1784م، إن كنت قد قرأت عنها أو شاهدت أحد الأفلام التي صورت مأساتها أو زرتها وتجولت في شوارعها، هل فكرت في النساء والأطفال والحيوانات والتجار والحرفيين والفقراء والأغنياء الذين طمروا تحت ركامها المحترق؟ في الأجساد المنكفئة على وجوهها، والكلاب التي حاولت التخلص من قيودها، والحراس الذين لزموا مواقعهم وتشبثوا بسلاحهم حتى آخر نفس فيهم، والحانات والقدور وأقداح النبيذ التي لم يفرغ العملاء من شربها، والموائد والأواني والأوعية التي احتفظت بأصناف الطعام والفاكهة والبيض في مواضعها، ورغيف الخبز الذي احترق وتفحم وظل ينتظر آكله الغائب أكثر من سبعة عشر قرنا، وحوانيت الحدادين والنجارين والخزافين والخبازين والطحانين وأدواتهم التي لبثت تترقب أصحابها ليبعثوا فيها الحياة التي أطفأتها الكارثة، والبيوت الرحبة التي أعيد بناؤها، والحمامات والأسواق والملاعب والمسارح والمشارب والمنتديات العامة والخاصة والشوارع والحارات والباحات والساحات، والنقوش والصور والكتابات على الجدران، والكلمات والضحكات والقبلات والهمسات والصرخات والزفرات التي اختنقت فجأة ولم تترك لها الفرصة حتى للبكاء والاسترحام أو اللعن والاحتجاج.
2
سوف تتحسر على الكارثة الفظيعة، وربما استرسلت في تأملات حكيمة - وإن تكن غير مجدية - عن معنى الحياة وقيمتها أو انعدام قيمتها، وعن هول القدر الذي يمكن أن يصيب الإنسان وما زال من الممكن أن يصيبه، ولكنك ستجد نوعا من السلوى والعزاء عن تلك المصائب التي لا حيلة للإنسان فيها ولا سلطان لعلمه عليها (حتى الآن على أقل تقدير)، وسيختلف شعورك أشد الاختلاف عما أحسست به وأنت تشاهد بقايا مدينة زاهرة خربها مستبد طاغية أو قائد عسكري فظ أو قبيلة أو طائفة أو جماعة من الجماعات الهمجية التي كان القتل الوحشي غايتها وتسليتها في تلك العصور الغابرة - ولم يزل كذلك حتى أيامنا هذه التي نشهد فيها ذبح ألوف الأبرياء والأطفال، واغتصاب ألوف البنات والنساء، وإهانة الجسد والروح البشري وإذلالهما في البوسنة - بينما يدير حماة الديمقراطية والحرية رءوسهم وأبصارهم بعيدا، مكتفين بشجب العدوان والمطالبة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان دون أن يحددوا من هو هذا الإنسان؛ هل هو الذي يسارعون بتحريك جيوشهم الجرارة لمساعدته وضمان أمنه حتى لو كان دولة الإرهاب المسلط على الأطفال العزل إلا من الحجارة، أم هو الذي يكتفون بإلقاء فضلات صدقاتهم إليه باسم المساعدات الإنسانية، أم هو أخيرا ذلك الذي يحتشدون لتأديبه وتعريته من أسلحة «الدمار الشامل» التي يمتلكها طفلهم الإرهابي المدلل المزروع في قلب أمتنا، ولن يتورع عن إلقائها على مدننا متى شاء؟ (5) لن نستطيع بطبيعة الحال أن نستسلم لإغراء الحديث عن مصائر المدن في الزمن القديم والوسيط والحديث والمعاصر، ولا في الأسباب المتناهية التعقيد وراء نشوئها وتطورها ثم انحلالها وتدهورها أو خنقها وحرقها في أيام أو ساعات أو حتى في لحظات. فمن الممكن أن نذكر روما قاهرة العالم القديم وكيف خربها برابرة القوط الغربيين بقيادة الأريك عام 410 ميلادية قبل أن تسقط سقطتها النهائية عام 476م، ومن غير الممكن أن نغفل شأن الإمبراطورية العربية الإسلامية التي طلعت شمسها في الوقت الذي مالت فيه شموس إمبراطوريات أخرى إلى الأفول - الرومانية والبيزنطية والفارسية الساسانية - وكيف توغلت جيوش الفتح رافعة راية الحق والإخاء والمساواة في شمال أفريقيا وآسيا وأوروبا، وانتقلت مراكز الحضارة العالمية الجديدة من مكة والمدينة إلى مدن وعواصم أخرى جرى عليها ما يجري على مدن البشر من نشوء وتطور وذبول وانهيار، وسرى عليها ما يسري على الحياة والأحياء من سنن الصراع والتحول التي تتحكم فيها قوانين موضوعية وأخرى ذاتية معقدة متشابكة يحاول المؤرخ أن يستخلصها من أمواج الأحداث التي تبدو في الظاهر كأنما تحركها المصادفة العمياء. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نذكر كم من المدن الإسلامية ازدهر وكم منها اندحر واندثرت معه عمائر ومساجد وقصور ومدارس وقلاع وأسوار وبيمارستانات (دور استشفاء) وحمامات وطرق وجسور وبيوت لم يبق من معظمها إلا آثار وشواهد نادرة أو بقايا كنوز ومخطوطات وقطع فنية محفوظة في متاحف الشرق والغرب، وإن بقيت شعلة الإيمان حية في قلوب ما يزيد على ربع سكان الأرض تقاوم رياح السموم التي تهب عليها اليوم من كل الجهات كما قاومت من قبل أعاصير التخريب والتدمير مع زحف هولاكو على بغداد وحرق جيوشه لها سنة 656ه/1258م وقتلهم آخر الخلفاء العباسيين، واحتلال غازان خان التتار وحفيد هولاكو لدمشق وبلاد الشام في نهاية القرن السابع الهجري والثالث عشر الميلادي على عهد سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون، وغزو تيمورلنك لها في سلطنة الناصر فرج بن الظاهر برقوق، في القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي.
Bilinmeyen sayfa