بهذا يضمن الفيلسوف - إن كان في مغامرة التفلسف ضمان لشيء! - ألا يتلاشى فكره في التجريد أو يتحجر في الجمود، وأن يظل فعله الفلسفي حيا وخالدا، إنسانيا ومتعاليا فوق الإنسان، واضحا ومحاولا الكشف عن الغموض، وبهذا أيضا تكون «الفلسفة الخالدة» هي في نفس الوقت «الفلسفة الحية»، ولا تكون الفلسفة إلا هذه الحركة المعذبة المتصلة بين السؤال والجواب والغموض والوضوح والمطلق والنسبي والإنساني وما يتجاوز حدود الإنسان، ويصبح من واجب هذا «الكائن الوسط» - الذي نسميه الإنسان - أن يقبل هذا القدر القاسي النبيل في شجاعة وثقة، ويحمل مسئوليته في أمانة وكبرياء، حتى يمكنه أن يحيا مشكلات الفلسفة ويحييها، ولا يكتفي فحسب بتأملها والتفكير فيها، وبهذا يصبح أول حرف في الفلسفة هو الإنسان نفسه، الذي يحاول ويعاني ويصارع ويتقدم على الدوام ويحقق نفسه في كل فعل يقوم به كجهد خلاق، وثورة حية متجددة. وتسكن الفلسفة في قلب الحياة والتاريخ، في المكان الذي تولد فيه الأحداث، باحثة عن المعنى والغاية، مبتعدة بنفسها عن طموح العمليين وتجريد المذهبيين.
في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة «الفلسفة الخالدة» التي أشرت إليها من قبل؛ فهي أشبه ما تكون بنظام شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظام معاصر نستطيع نحن أيضا أن نجد مكاننا فيه، ونحس بالمشكلات التي عذبت من قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجابات مختلفة عن إجاباتهم. «فالشك» مثلا ليس مسألة أثارت بعض الفلاسفة ومرت من زينون الإيلي إلى السفسطائيين إلى ديكارت، بل هو مسألة تطرح نفسها علينا في زمننا الحاضر وفي موقفنا الراهن. وليس معنى هذا أننا لا ندخل «مدرسة الحكمة» أو «معبد الفلاسفة» إلا لنلتقي بأفكارهم الخالدة فحسب، بل لا بد لنا كذلك أن نعرف حكمتهم وحماقاتهم وهزائمهم وانتصاراتهم وحقائقهم وسخافاتهم. وليس ما يمنع أيضا من الاهتمام بالأمراض التي كانوا يشكون منها في المعدة أو الصدر؛ اهتمامنا بتفاصيل مذهبهم أو ظروف مجتمعهم وحياتهم؛ ذلك لأن الفلسفة - هذا الجنون المعقول! - حاضرة دائما في كل فيلسوف، وليست حقائق الفلاسفة أو خرافاتهم سوى ذكريات على طريق واحد، مهما تعرج أو امتلأ بالسدود والمطبات، فهو يتحرك على الدوام حركة تبدأ في كل لحظة ولا تنتهي؛ فليست الفلسفة في نهاية الأمر مجموعة من المذاهب والآراء التي تعبر عن نفسها بالأفكار المجردة، بل هي قبل ذلك ملحمة من تجارب الحكمة، تمتلئ فصولها بالسلب والإيجاب والنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ويتصل فيها الماضي بالحاضر، ويلتقي المفكرون من حيث لا يعلمون؛ ليضعونا أمام المسئولية التي تحتم علينا في كل لحظة حاسمة من لحظات حياتنا أن نجرب تلك الحكمة، ونسير على هذا الطريق؛ لنثري حياتنا ونوسع آفاق شعورنا، ونكون نظرتنا الشاملة في العالم والإنسان، ونتمسك بالقيم التي نادى بها الفلاسفة ودفع بعضهم حياته من أجلها.
لذلك كانت الخطوة الأولى على هذا الطريق هي إيقاظ السؤال الفلسفي في نفس القارئ من جديد، والرجوع به إلى الحالة الأولى للتفلسف، أي إلى الدهشة الأصيلة التي جعلت أقدم الفلاسفة يسأل هذا السؤال السهل العسير: ما هو الوجود؟ وكانت لحظات الاندهاش أو العلو أو الشجاعة والتواضع أو الاحتجاج ... إلخ، التي تتحدث عنها الصفحات القادمة لحظات من فعل التفلسف نفسه، ومحطات على هذا الطريق الطويل الشاق، وألوان من المواقف الحاسمة التي وقفها المفكرون، واستطاعت فيها الفلسفة أن تكون عونا لهم على مواجهة قدرهم أو أدت بهم على العكس من ذلك إلى مأساة هذا القدر؛ ولهذا كله فإن هذا الكتاب لا يهدف إلى التعرض لتاريخ الفلسفة أو مذاهبها، بقدر ما يهدف إلى تمهيد الأرض الصالحة لفعل التفلسف نفسه، وتطهيرها من كل ما يعوقه من عقبات تنجم عن التزمت أو الكسل أو الإغراق في التفاصيل والجزئيات. إنه يريد أن يشرك القارئ في ذلك البحث الخالد عن المعرفة ويأخذ بيده إلى «مدرسة الحكمة» التي لا يحدها مكان ولا زمان، لعله أن يدخل في حوار مع أصحابها، ويذوق طعم المشكلات التي تعذب عقولهم أو تملأ عليهم وجدانهم، حتى يفوز من ذلك بزاد يعينه على طريق الحياة، ويحيي فيه جذوة السؤال عن حقيقته وغايته ومعنى وجوده وحريته.
وإذا كان الكتاب لا يهدف - كما قلت - إلى عرض مذاهب فلسفية ولا الوقوف منها موقف المؤيد أو المعارض، فليس معنى هذا بالطبع أنه يسوي بين الفلسفات جميعا كما لو كانت - على حد تعبير هيجل - قططا سوداء في حجرة مظلمة، بل معناه أنه يعرض جوانب من فعل التفلسف الخالص نفسه؛ فهو الخيط الذي يمكنه أن يهدينا في متاهات الآراء المختلفة، ولا بد من البدء بتفهم حروفه لنفهم بعد ذلك لغات الفلاسفة المركبة الغامضة، ولا بد أيضا من تجربته والتمرس عليه قبل الخوض في الكلام عن المذاهب أو التصدي لها بالمعارضة أو التأييد، فإذا أفلح هذا الكتاب في أن يوقظ في القارئ محبة الحكمة أو يغريه بممارستها، وإذا استطاع - على الأقل - أن يقدم له بعض اللحظات الأولية التي تعبر عن الجهد الفلسفي وتضع قدم المتفلسف على الطريق، فقد حقق أقصى ما يطمح إليه كاتبه.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في يناير 1967
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
سماه بعض القدماء ب «المعتم»، وبعضهم الآخر ب «الفيلسوف الباكي»، وغلبت عليه هذه التسمية جيلا بعد جيل، منذ أن كانت كتاباته كاملة بين أيدي معاصريه. ويقال إنه أودعها في معبد الآلهة أرتيميس، وتعمد أن يدونها بخط غير واضح حتى لا يقربها إلا القادرون على فهم أسرارها، إلى أن ضاع معظمها ولم يبق منها سوى مائة وثلاثين شذرة متفرقة يتألف بعضها من عبارات صغيرة، وبعضها من جملة واحدة أو كلمة مفردة. أما الاسم الذي خلعه عليه أبوه فهو هيراقليطس بن بلوسون من مدينة أفيسوس في بلاد اليونان، وأما تاريخ ميلاده فيرجع إلى حوالي عام 500 قبل الميلاد.
وهيراقليطس هو آخر الفلاسفة المعروفين بالأيونيين وأكبرهم، أحاطت به هالة من العظمة والوحدة والكبرياء والتفرد، جذبت المفكرين إلى شخصيته العجيبة على مدى العصور، وتمثلت فيه غضبة المفكر الذي يدق ناقوس الخطر ليوقظ النيام ويرفع عصاه ليعيد موكب الجماهير إلى منبع الحكمة، نشأ في بيت ثري نبيل، وتخلى عن وظيفة الكاهن الموروثة في أسرته إلى شقيقه الأصغر، ورفض أن يشارك في حكم المدينة التي ولد فيها، أو يشرع لها القوانين؛ لا عن أنانية أو تكبر، بل لاعتقاده بأن دستور هذه المدينة ومواطنيها قد بلغوا من الفساد حدا يعجز معه عن إصلاحهم: «من الخير للأفيزيين أن يشنقوا أنفسهم واحدا واحدا، وأن يتركوا المدينة لغير الذكور؛ فهم الذين طردوا هرمودوروس (أحد أصدقاء هيراقليطس) أكرم رجالهم قائلين له: ليس منا من يفضلنا في الكرامة، وإن وجد فينبغي له أن يعيش في بلد آخر وعند قوم آخرين.»
Bilinmeyen sayfa