جماعة سقراط من مختلف طبقات الشعب البسيط، ربما التقوا به بمحض الصدفة، فلم يشاءوا أن يتركوا الفرصة تفلت من أيديهم، ليسوا علماء ولا متعالمين - فكم كان سقراط يكره هؤلاء! - بل أناس استهوتهم طريقته في الحوار وتحديد المعاني والأفكار، إنه لا يتحدث عما وراء الطبيعة، ولا يغوص في أسرار الكون، ولا يتعرض لمشاكل الفلسفة الكبرى، بل يتحدث عن أبسط الأشياء التي تصادفهم في حياتهم العملية، جاعلا شعاره الذي يهتدي به قوله المأثور: المعرفة فضيلة، إنهم يثقون بما يقول، ويتحققون الآن من أنه لا يهتم بأن يعجب ويدهش بقدر اهتمامه بأن يعلم ويربي، لن يجدوا عنده شيئا من ألاعيب الجدليين التي يعرفها تاريخ الفكر من عهد زينون الإيلي إلى مهرجي الفكر في القرن العشرين، إن موقفه موقف صادق أمين، واضح محدد المنطق، وقد طالما جر عليه العداوة الظاهرة أو الخفية من جانب كثير من الفلاسفة، ابتداء من هيجل إلى نيتشه. إن المحارب الجميل يتطلع إليه في ثقة واطمئنان، ويضع يده على خده الأيسر وكأنه يصدق كل ما قال وما سيقول، والشاب الأشقر الواقف إلى جانبه قد أمن على كل كلمة قالها، وإذا كان الآن يسرح بعينيه بعيدا عنه، فهو يستأذنه في الانضمام إلى الجماعة الجديدة القادمة من الوسط، وكأنه يقول له: إنني لا أنصرف عنك إلا لأعود إليك، لقد ازددت اقتناعا بأنه ما من تيار آخر إلا وهو منبثق من منبعك. والعجوز الماثل في الوسط (لعله تاجر أو عامل يدوي) يميل برأسه نحوه، وترتسم على عينيه الضيقتين ووجهه المتعب الهضيم آثار الإجهاد من تتبع كلامه.
إن سقراط يعلمهم جميعا ويتعلم منهم، العلاقة بينه وبينهم تظل علاقة الحر بالحر، إنه ينمو معهم كما ينمون معه، وكل خطوة يخطوها تقربه منهم كما تقربهم منه، إنه لا يهدف إلى إقناعهم تمهيدا للتحكم فيهم والسيطرة عليهم (كما كان الحال لدى السفسطائيين وكما هو الحال اليوم لدى أصحاب الجدل والدعاية)، بل يعترف بجهله أمامهم ويحاول أن يتعلم منهم، ولا يصل إلى معرفة إلا بالاشتراك معهم، هو لا يوجه تلاميذه إلا ليزيدهم معرفة بأنفسهم، أعني ليزيدهم حرية؛ فهو لا يفكر لهم، ولا يخطب فيهم، ولا يحاول أن يخلقهم على مثاله، بل يأخذ بأيديهم حتى يستخرجوا المعرفة من أنفسهم، ويدرب أقدامهم على السير على طريقهم، ويفتح أعينهم على النور الكامن في باطنهم. هذه المعرفة التي يستخلصونها بأنفسهم من أنفسهم هي التي ولدت معهم، وهي وحدها التي ستبقى معهم إلى يوم مماتهم، تلك هي المعرفة «الأخلاقية» الحق، التي يحصلها الإنسان بالتأمل في نفسه، وهي المعرفة التي تبقى بعد أن ينسى كل ما تعلم أو «عرف»!
ويأتي المشهد الثالث، فها هما مفكران جليلان رائعان قد دخلا إلى معبد الحكمة (29، 30) الأنظار كلها تعلقت بهما، الواقفون على الجانبين أفسحوا لهما مكانا، والذين لم يلتفتوا حتى الآن إليهما لا شك أنهم يحسون بهما، لقد جاءا في خطوات جادة ثقيلة حازمة، كأنها إيقاع اللحن الثقيل الجاد الذي يصاحب أفكارهما ، الجميع يصغون إلى حديثهما، يتابعون الذراعين الممدودتين، تشير إحداهما إلى السماء في إصرار وعزم، وتشير الأخرى إلى الأرض في قوة وخشونة. اثنا عشر رجلا التفوا حولهما، استغرقوا في حديثهما الذي لن يصل إلى حد النزاع أبدا، ثم تركوا كل شيء وراحوا ينصتون إليهما، ويتدبرون بينهم وبين أنفسهم إن كانوا سينضمون في النهاية إلى صف الحكيم الإلهي، أو سيقفون إلى جانب العالم الواقعي، إن كانوا سيحلقون في السماء أو سيتشبثون بالأرض، حتى الشيخ العجوز الأصلع الملتف في ردائه الأصفر الفضفاض ترك جماعته وهم ما بين شاك ومتردد ومصر على موقفه وانضم إلى هذا الموكب الجديد الرائع ليتعلم ويستفيد.
إن أميري الفكر العظيمين يتصدران اللوحة، ويضفيان عليها جوا من السمو والعظمة والجلال، إنهما لا يقفان في مكانهما بل يتابعان سيرهما على طريقين متوازيين ولكنهما لا يلتقيان، وكل شيء يدل على أنهما هما أفلاطون
1
وأرسطو، الأول يرفع يده إلى السماء، وكأنما يشير بها إلى عالم المثل، والثاني يؤكد إشارته إلى الأرض، وكأنه يقول: «بل المثل هنا في عالم الأرض والواقع»! ها هما يصلان الحوار الذي لن ينقطع بعدهما، إنهما مستغرقان فيه منذ حين، لا يشعران بمن حولهما، وكل من حولهما يشعر بهما: شيوخ وشباب، أمراء وصعاليك، حكماء ومبتدئون من الألف باء، كلهم التف حولهما، وألقى بنفسه مختارا في أشرهما، وهم لفرط الإعجاب الصامت - العيون الصافية المستسلمة تشي به! - لا يدرون لمن يلقون الزمام: للشيخ العنيد الهادر، أم للرجل الصلب المتزن؟ وإذا كان الشاب الأشقر السمح الوجه، المتشح في سترة بيضاء على اليمين هو الإسكندر الأكبر كما يقول بعض المفسرين، فكم يصعب علينا أن نحدد ميله إلى المشائين أو إلى الأفلاطونيين! لقد اندمج الجميع بكليتهم في الحديث، فلم نتبين حتى وجوههم، إذا استثنينا الأول من كلا الصفين على اليمين واليسار، فالحكيمان يملآن المكان، لا يقل أحدهما عن الآخر في عظمته وجلاله، ولا يتميز واحد عن الآخر في قوته وإقناعه.
يبدو أفلاطون في روعة الشيخوخة، وأرسطو في قمة الرجولة، كلاهما يمسك بيده اليسرى كتابا. أما أفلاطون فكتابه هو «تيماوس»، وأما أرسطو فكتابه هو «الأخلاق». حركة الأول ونظرته المتحمسة تدل على أنه هو العجوز الناري الذي يذكر أبناء الأرض بالسماء، وبنية الثاني ونظرته الواقعية الهادئة تدل على أنه هو المعلم الرزين الذي يعيدهم إلى الأرض. الأول يشير متحمسا إلى عالم آخر، لعله هو عالم المثل أو التجريد أو الحب الإلهي، ويدافع بالعاطفة الملتهبة عن المطلق والمثال. والآخر يرد عليه في قوة وعزم، ولكن في حب وتعاطف، ويكاد يقول له في كلمات عاقلة مرتبة: يا أيها المعلم والصديق، إن حبي لك لا يمنعني من مصارحتك بالحقيقة، حاول أن تنظر معي إلى الأرض، أن تعود إلى التجربة، ألا ترى معي أن المثل لا تأتي معها بغير المشقة والتناقض؟ ألا ترى أن قسمة العالم إلى عالمين أحدهما للمثل الخالدة الثابتة، والآخر للأشياء المحسوسة المشاركة فيها؛ شيء يصعب على العقل تصديقه؟ أعرف أنك تقف بالقلب والشعر وراء هذا العالم البعيد المضيء، ولكن عالم التجربة والواقع عالم قريب وعسير، آه فلتعد إليه! فلتعد معي إليه، ما زلت تقول: إن المثل نماذج خالدة، وتصر على أن الأشياء تشارك فيها، ولكن لا هذا ولا ذاك يثبت وجودها، لا يصح أن نبحث عن جوهر الأشياء خارجا عنها، المثال والظاهرة يا معلمي، الصورة والمادة، العام والفرد، كلاهما مرتبط بالآخر. حقا إن المبدأ العام هو أساس المعرفة بالجزئيات، والصورة هي التي تحدد المادة وتشكلها، والمثال هو الذي يعطي الظاهرة «مظهرها»، ولكنهما متلازمان في الشيء الواحد، لا يتخلى أحدهما عن الآخر ولا يحلق بعيدا عنه، لا لن أستطيع أن أوافقك على رأيك في المثل، وإن كنت أخاطر بأن يتهمني الناس بمعارضتك حبا في المعارضة، نحن يا معلمي لا نختلف في معنى الكلمة، بل نختلف حول الطريق، وإذا كانت غايتنا هي المعرفة التي تحرر الإنسان، فإن طريقينا مع ذلك يختلفان. ستظل عينك تتأمل وترى، وستظل عيني تفحص وتدقق، ستظل قريبا من الله، وسأظل قريبا من العالم، كل ما على الأرض بالنسبة لك ظلال وأشباح، والناس عندك مساجين كهف لا يرون غير هذه الظلال والأشباح، فإذا خرجوا منه - ولكن كيف ومتى يخرجون؟! - أعشى أبصارهم نور الشمس، وبهرهم سنى المثال، أما أنا فلن ألجأ إلى الرمز، لن أحلق على جناح الشعر، لن أرتفع فوق الواقع، بل سأعيدهم إلى الأرض، سأنبههم إلى قيمة التجربة، سأغوص معهم في زحام الحياة. •••
بعد المأساة الجادة بأن المرح الرقيق، فعلى اليمين (38-39 ومن 42 إلى 44) انفضت جماعة منذ قليل في هدوء وبغير ضجيج. إن الشاب الذكي الذي يعرف هدفه (44) ويلبس رداء أزرق ويتلفح بعباءة بنفسجية - لعله كان لسان هذه الجماعة أو رائدها - يهبط درجات السلم، ولم تزل أصداء الحديث الذي شارك فيه تتردد في سمعه، وهناك يقابله زميل آخر، لا نرى منه إلا ظهره، نحس من إشارته أنه أقبل مسرعا، كأنما يخشى أن ينفض مؤتمر الحكماء قبل أن يدرك نصيبه منه، إن ذراعيه الممدودتين ناحية الفيلسوف الكلبي المسترخي على درجات السلم في غير اكتراث توحي بأنه يسأل صاحبه وهو يحاول أن يكتم الضحك: وماذا يصنع هذا أيضا؟ أتسمي هذا الشيء الممدد فيلسوفا؟ أهكذا تفعل الفلسفة بأصحابها؟ إن كان ديوجينيس كما تقول: فلماذا ترك برميله؟! لو أنه أحضره معه لما كنت على الأقل تعثرت فيه! ها أنا قد جئت أبحث عن معلم يهديني في متاهات الحكمة، أليس هذا الذي تجنب الجميع وزهد في الترف وصد عن مباهج الحياة هو أحكم الحكماء؟ ولكن صاحبه لا يكلف نفسه عناء الرد عليه، ولا يحمل كلماته محمل الجد، بل يشير بذراعه إشارة مختصرة حاسمة ناحية الفيلسوفين العظيمين اللذين أقبلا منذ لحظات، يشع منهما نور قاس يحيل كل ما عداهما إلى ظلال فقيرة باهتة: «هنا تستطيع أن تتلقى الحكمة، هنا لا في أي مكان آخر أيها الصديق!» والكلبي يسمع الحديث المهين الذي يدور عنه، لكنه لا يغادر هدوءه، ولا يخرج عن فلكه؛ لقد أدار ظهره للعالم وللناس ولم يعد ثمة شيء يستطيع أن يثير اهتمامه، وبعد أن ينتهي من قراءة مخطوطته - التي أقبل عليها في غير اكتراث، وكأنه يعرف سلفا أنها لن تأتيه بجديد - سيغمض عينيه ويستسلم لحظات لنوم هادئ يساعده على هضم طعامه المتواضع الذي ازدرده منذ قليل (وبعض الشارحين يؤكد أنه يرى وعاء طعامه على يمينه)، لا لن يهزه شيء أو يفقده هدوءه. وهؤلاء المترفون المتخمون هم أبعد الناس عن ذلك؛ إذ ما شأن أصحاب الثياب الفخمة والبطون الممتلئة بالفلسفة؟! الفيلسوف شحاذ من نوع غريب، لا يقف بباب ولا يمد يده بسؤال، وهل يستطيع أن يصل إلى الحقيقة العارية إلا من تعرى مثلي عن كل شيء؟! لا لن يكون لي شأن بهم حتى يتقنوا الشحاذة الفلسفية! فليتحدثوا أو ليسكتوا ما شاء لهم الحديث أو السكوت، أما أنا فلن أغادر برميلي ولو لم أحضره معي!
كانت هناك جماعة ملتئمة كما قلنا، ثم انفضت منذ قليل، العجوز الأصلع ذو الذقن الكثة البيضاء والرداء الأصفر القاتم قد شارك فيها من غير شك (شخص 47)، إنه يقف الآن وحده وكأنه يتحدث مع نفسه، لعله قد اكتشف - بعد الجدال الصاخب اليائس مع الشاب القوي الذي يهبط درجات السلم - أنه قد شاخ وأصبح من جيل قديم نسيه الموت ولم يعد يؤمن به الشباب، حتى هذا الشاب الذي جاء يبحث لنفسه عن معلم لم يكد يلتفت إليه، بل أسرع متجها إلى أميري الفكر الجديدين، هل كان عبثا كل ما أضعته من أيام عمرك في تلقي الحكمة وتلقينها؟ وهل تعرف الحكمة آلام الشيخوخة التي يعاني منها أبناء الإنسان؟! ما أقسى وحدة الحكيم حين يهرم فلا يستطيع أن يقنع أحدا ولا يستطيع أحد أن يصبر على الاستماع إليه! ها هو قد أنفق الساعات يشرح ويؤيد ويثبت بالحجج والبراهين، فماذا كانت النتيجة؟ شاب قوي كان يؤمل فيه الخير وينتظر منه العزاء لشيخوخته والاستمرار لتعاليمه ينصرف عنه غاضبا إلى غير عودة، وصبي ساذج صغير لا يزال يتهجى أحرف «الفلسفة» أسند أوراقه على ركبته، وراح يحاول أن يكتب ما فهمه مني إن كان قد فهم شيئا على الإطلاق، ويائس شاك وضع رأسه الضخم المهمل الشعر على ساعده وبقي وحده يتأمل فيما قلت، أو بالأحرى يتشكك فيه ويفكر في هدم البقية الباقية من أطلاله. إنه يتطلع في استخفاف ورثاء إلى كراسة الصبي المخلص إخلاص الأبرياء، وينتظر حتى يفرغ من تدوين ما علق في ذاكرته ليقول له: «ألم تكتشف بعد أن البرهان مشلول الساقين، وأن الحجج التي قدمها هذا العجوز المسكين لا تحتمل هبوب نسمة واحدة فما بالك بأعاصير الفكر الجديدة؟!» أنا لا أجرده من كل فضيلة؛ فأفكار الفلسفة تظل هي هي، ومشكلاتها لا تفنى ولا تستحدث، ولا تشيب ولا تتجمد، ولكن طريقة تناولها هي التي تختلف، وطريقة هذا العجوز قد أفناها الدهر الذي أوشك أن يفنيه معها. لعل الشاك المعذب لم يفصح عن شيء من هذا كله؛ لكيلا يعدي الصبي المتحمس، ولكن ظهره الذي انحنى، ووجهه الناحل المستطيل الحاد التقاطيع ينبئان باليأس الذي يمزقه ولا يستطيع أن يخفيه، إنه اليأس الذي أغرقه في الشك العقيم، ومنعه من أن يحاول مرة أخرى، أو أن ينضم إلى تيار جديد يجد فيه الجواب على الأسئلة التي تحير قلبه، وإذا كان يشك في مقدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة، فربما يعزيه أن العجوز الأصلع ذا الرداء الأحمر القاتم لم يخل كذلك من الشك والتردد، ها هو يقف حائرا لا يدري إلى أين يذهب ... رأسه وعيناه تتجهان ناحية اليمين، بينما يحاول جسده أن يتجه به إلى اليسار، ويداه المعقودتان على صدره تشيان بتردده، فإحداهما تميل يمينا بينما تشير الأخرى إلى اليسار، لعله مع ذلك قد استراح من العذاب الذي وقع فيه، وتخلى في يأسه عن كل سؤال، ولعله يؤمن الآن بأن لكل شيء وجهين، وأن كل شيء في نهاية الأمر حق وباطل وخير وشر وممكن ومستحيل. هذا هو عذاب الفلسفة، وهذا هو صراع الفكر مع نفسه، سيصل مع هيجل في العصر الحديث إلى قمته، فيقدس الديالكتيك ويمجد التغيير، ويضع يد الإنسان في الماء والأخرى في النار، ويؤرجح الكرة الكونية على قرني الثور فلا تهدأ ولا تستريح! إن وجه العجوز مكفهر، وجبهته مقطبة، وعيناه تكاد تطفر منهما الدموع؛ لقد خاب أمله في نفسه وفي العالم، ونفض يديه من السيطرة على تناقضات الواقع، ووقف مترددا عاجزا عن الاختيار. انفضت الجماعة كلها من حوله (لعله أيضا لم يكن رائدها أو مركز الوسط منها، بل مجرد شيخ محب للحكمة وقف يستمع إلى الجدل الدائر بين أفرادها) حتى إذا اتجه كبيرهم - العجوز الأصلع العملاق ذو الرداء الأصفر الفضفاض الذي يقف في أول الصف الأيمن يشاهد أفلاطون وأرسطو مكتفيا بالاستماع إليهما والتعلم منهما - إلى أميري الفكر العظيمين، وأسرع الشباب منهم بالانصراف - كما ترى الشاب العاري الذراع والكتف على أقصى اليمين في الجانب الأعلى من الصورة (شخص 48) - وجد نفسه وحيدا لا يدري ماذا يفعل ولا يعرف ماذا يريد. •••
في الواجهة الأمامية للوحة، يطالعنا مفكر وحيد متجهم (شخص 1)، إنه يجلس أمام الدرجات الأربع، مستندا برأسه إلى ذراعه اليسرى، على وجهه المتعب النحيل أمارات كآبة لا تخطئها العين، إن يده اليمنى تمسك بالقلم، ولكن العينين لا تتابعان ما تريد النفس المهمومة أن تمليه عليها، ولا تريان شيئا مما أمامهما أو حولهما، بل تتجهان إلى الداخل، وتتوهان في دروب الذات التعيسة المعتمة. إنه مثال المفكر الوحيد الذي يواجه زمنه بالتحدي والعناد، ويغوص في أعماق نفسه ليبحث فيها عن أعماق الوجود، إن يده لا تستطيع أن تلاحق أفكاره أو تعبر عن رؤاه، ولا تستطيع أن ترتبها في نسق أو نظام، ربما كان من أسباب حزنه الجارف غير المحدود أنه قد أدرك الآن أن الكلمة المكتوبة لا تملك أن تعطي للفكرة الشكل الذي يناسبها. إن الحزن المرتسم على وجهه أكبر وأعمق من أن يكون ذلك الانطواء الذي يتحدث عنه علم النفس، ولكن حزنه لا يتناسب مع قوته البدنية، وتأمله لا يتفق مع منظره الشاب، لعله يسأل نفسه - كما يسأل الشيخ الواقف على عتبة الموت: «ماذا بقي بعد الآن؟ وما جدوى هذا كله؟» أو لعله يكرر بنفسه حكمة سليمان: «الكل باطل.» إنه لا يفكر في العالم فحسب، بل يتعذب به ، هو الوحيد حقا بين كل من نراهم في اللوحة من نماذج وشخصيات، وما أشد شبهه بتمثال رودان المشهور «المفكر» الذي يبدو وكأنه يطل في هاوية أعماقه الباطنة التي تجذبه إليها، ترى ماذا يقول لنفسه؟ هل يدرك الآن أن الحياة لم تكن سوى خداع مستمر للنفس؟ هل يحن إلى العودة إلى أحشاء أمه؟ أم يتمنى لو لم يولد على الإطلاق ولم تر عينه نور الشمس؟
Bilinmeyen sayfa