وترن هذه الكلمات في سمع السجين رنينا عذبا، ويذوق فيها حلاوة الخطابة والشعر ، غير أن عذابه أعمق من ذلك بكثير، وعقله المضطرب ما يزال في حاجة إلى البلسم الذي يشفيه، والسيدة الحكيمة تحاول أن تسكن من روعه، أما العلاج الحاسم فلم يؤن أوانه بعد؛ فها هي ذي تذكره بطفولته، عندما حرمه الموت من أبيه فتولته أيد أمينة بالرعاية والحنان، حتى إذا بلغ سن الرجولة غبطه الناس على الزوجة النبيلة والأبناء النجباء، وتوالت عليه أسباب المجد والتكريم، وشرف ولداه في يوم واحد بالتعيين في منصب القنصل، بين تهليل الجماهير وتهنئة أعضاء المجلس. لقد غمرته آلهة الحظ بما لم تغمر به سواه، ولو أحصى ألوان السعادة التي نعم بها لزادت عن ألوان الشقاء، أما ما يعانيه الآن من بؤس وما ينتظره من جزاء فهو شيء عابر ككل شيء سواه، ومهما خيل للإنسان أن سعادته دائمة، فإن اليوم الأخير من حياته يحمل معه الموت لهذه السعادة الدائمة. إن الكون نفسه يبدو منقلبا، وكذلك حظ الإنسان، وما يملك من خير أو متاع أبعد ما يكون عن اليقين، أما القانون الأبدي الوحيد فهو هذا: ما من شيء مخلوق له صفة الدوام.
ولا يشك السجين فيما تقوله أم الفضائل جميعا، ولا يجادل في أنه كان في يوم من الأيام أسعد الناس، ولكنه يقول لها: إن أشد أنواع الشقاء أن يتذكر الإنسان أنه كان سعيدا ذات يوم. وتدعوه أم الفضائل أن يجفف دموعه؛ فما زال بين الأحياء من يذكره ويذرف الدموع عليه ويتحرق شوقا إليه، وما زال هناك عزاء عن الحاضر وأمل في المستقبل، فمن ذا الذي اكتمل حظه من السعادة فلم يدع له سببا لشكوى؟ ألا ترى الغني يفتقر إلى النبالة، والنبيل يعوزه الغنى؟ ألا ترى السعيد في زواجه محروما من الأبناء، ومن رزق الأبناء شقيا بأعمالهم؟ ليس شقاء إلا ما تعده كذلك، وكل قدر تستطيع أن تراه سعيدا، لو أمكنك أن تحتمله في هدوء واتزان. ومن ذا الذي بلغ من السعادة حدا لا يتمنى معه لو أنه استطاع أن يغير حاله؟ وأية حلاوة في أقدار البشر لا تمتزج بالمرارة؟ يا لها من سعادة ناقصة هذه التي تأتي من أسباب أرضية! فلماذا إذن، أيها الفانون، تبحثون عن السعادة خارج نفوسكم وهي كامنة فيها؟ إن الجهل والضلال يعميان أبصاركم. دعني أشرح لك سر السعادة الخالصة، هل هناك ما هو أعز لديك أو أعظم قيمة عندك من نفسك؟ لا شك أنك ستجيب بالنفي، لو امتلكت السيطرة على هذه النفس، فسوف تمتلك شيئا لا يضيع منك ولا يستطيع القدر أن يسلبك إياه، إن السعادة الحقة لا يمكن أن تعتمد على الصدفة، ولا هي مما يمكن أن يسلب من الإنسان؛ ومن ثم فإن الحظ المتقلب لا يمكن أن يكون سببا من أسباب السعادة. وكل من يقوده الحظ قد يجهل طبعه المتقلب وقد يعرفه، فإذا كان يجهله فأي سعادة يمكن أن تصيب الإنسان مع هذا الجهل؟ وإذا كان يعرفه فلا بد أنه يخشى ضياع ما يعلم أنه عرضة للضياع، ولا بد أن هذا الخوف سيحول بينه وبين السعادة. ألست مقتنعا بأن نفوس البشر غير فانية، وأن السعادة العارضة تموت بموت الجسد؟ ولو كان في مقدور الحظ المتقلب أن يهب البشر السعادة الحقة، فهل تشك في أنهم سيصيرون بعد الموت إلى الشقاء الدائم؟ ولو سلمنا بأن عطايا الحظ ليست بطبعها زائلة، فأي شيء فيها لا يفقد قيمته مع الزمن، وأي شيء فيها له قيمة في ذاته؟ لن تستطيع أن تقول هذا عن ذهب ولا فضة، فهي إن صارت ملكا لواحد بمفرده تسببت في فقر الآخرين، وإن وزعت بين الجميع لم تصبح ملكا لأحد! ولكن هل هناك صلة تربط بينها وبين نفسك التي تحس؟ أليس جمال النفس ونورها أروع من الجمال والنور الذي ينبعث من الذهب والأحجار الكريمة؟ ولماذا تنسب للأشياء الخارجية من القيمة ما تحرمه على ذاتك؟ أم ترى بلغ بك قصر النظر أن تجد السعادة في الملابس الزاهية والخدم والحشم؟ ما الذي تسعون إليه إذن من وراء هذا الضجيج كله عن السعادة؟ إنكم تحاولون بالشره إلى التملك والترف أن تبعدوا عن أنفسكم الإحساس بالنقص والحاجة، ولكنكم لا تزيدونه إلا قوة واشتعالا! لقد انقلبت الأمور حتى ظن الكائن الإلهي العاقل أن مجده لن يسطع إلا إذا امتلك ما لا حياة فيه، لقد أراد الخالق أن يرتفع الجنس البشري فوق كل ما هو أرضي، ولكنه يشاء إلا أن يضع نفسه بين الأشياء الزائلة في أحط مكان! وهل يستطيع أن يرتفع فوق الأشياء إلا إذا عرف نفسه؟ وهل يستطيع أن يعرف نفسه حتى يعرف أن قيمته تعلو على كل ما عداها؟ أنت يا من تخاف الآن من السيف والرمح، تعلم أن تتجول فقيرا على الأرض وسوف يمكنك أن ترفع صوتك بالغناء أمام قاطع الطريق! ثم ماذا أقول عن المنصب والسلطان؟ وهل كان في وسع الحمم المتفجرة من بركان «إتنا» أن تسبب من الخراب والدمار مثلما سببه المنصب والسلطان حين كانا في يد حاكم شرير، ألا تذكر كيف سعى آباؤك إلى إلغاء لقب القنصل لما وجدوه من غرور القناصل، مثلما محوا كلمة «الملك» من قبل لما لمسوه من جبروت الملوك؟
9
إن الفضيلة لا تشرف بالمنصب، بل المنصب هو الذي يشرف بالفضيلة، ثم ماذا يغريكم في السلطان ويحببه إليكم؟ هل تنسون أيها الفانون من أنتم ومن الذين تتحكمون فيهم؟ أولا تنفجر ضاحكا لو سمعت أن فأرا أعطى لنفسه الحق في التسلط على غيره من الفيران؟! وهل هناك من هو أشد عجزا من الإنسان؟ ألا تكفي لدغة بعوضة للقضاء عليه؟ وهل يتسلط صاحب السلطة حقا على شيء سوى الجسد أو المتاع؟ وأين الذي يتحكم في العقل الحر؟ وأين من يزحزح الخلق الثابت عن هدوئه؟ ألا يتذكر ذلك الطاغية الذي أخذ يعذب رجلا حرا ليشي برفاقه في المؤامرة المنسوبة إليهم، فما كان من هذا الرجل إلا أن عض لسانه وبصقه في وجه الطاغية؟!
لو كان المنصب أو كانت السلطة خيرا في ذاتها، لما وقعتا في يد الشرير، فالأضداد - كما تعلم - لا تجتمع أبدا، وقل مثل ذلك عن ألوان الحظ والسعادة التي لا تصيب إلا سيئي السمعة، فما استطاعت الكنوز أن ترضي النهم الذي لا يشبع، ولا استطاعت السلطة أن تتيح لمن يرسف في أغلال الشهوات أن يكون له سلطان على نفسه، إنها ليست خيرا في ذاتها، فكيف تستطيع أن تجعل من أصحابها أخيارا؟
كلنا يعرف المفسد نيرون
الذي أحرق روما، وقتل الشعب
كلنا يعلم كيف قتل شقيقه،
وكيف لطخ يديه بدم أمه.
وعندما أبصر الجسد الهامد
Bilinmeyen sayfa