وكان للشيوخ حق الحبس والحكم بالدعاوى على اختلافها وجمع الجنود للمحاربة والفعلة لحفر المعادن والمكارين للتسخير فضلا عن جباية الخراج والضرائب، وكان تحت يدهم بكباشية (بلوكباشية) من وطنيين وغيرهم ورجال للتحصيل وتبليغ الأوامر يسمون «حواليه»، كانوا ينزلون على المطلوبين فلا يبرحونهم حتى ينالوا منهم مطاليبهم المأمورين بها والواحد منهم يسمى «حوالي». وإلى الآن يضرب المثل بالحوالية وتثقيلهم على الناس. (9) موقعة عالية وبعبدا
ولما خرج إبراهيم باشا المصري من سورية سنة 1840 وأبعد الأمير بشير الكبير إلى مالطة ولقب بالمالطي، ثم إلى الأستانة نصب الأمير بشير قاسم الشهابي الملقب بأبي طحين حاكما على لبنان بموجب تقليد (فرمان) سلطاني سلمه إياه أمير البحر الإنكليزي السر ستبفرد. وكان الساعي بذلك السر رتشرد وود الذي جاء سورية للسعي بإخراج الدولة المصرية. وفي هذه الأثناء نصب قنصلا عاما لدولته الإنكليزية في دمشق وبقي يشارف أعمال لبنان.
ولما تولى الأمير بشير قاسم سار إلى بعبدا، ومنها إلى بيت الدين واتخذ مستشارا له الأمير محمودا سلمان الشهابي من وادي شحرور وقرب إليه كثيرا من أنسبائه الشهابيين، وخالف عادة الحكام من أيام فخر الدين المعني الشهير؛ أي منذ قرنين ونصف، إذ كانوا يتخذون مدبريهم وأعوانهم من اللبنانيين، فاتخذ هو فرنسيس مسك من بيروت مدبرا وأعاد الإقطاعيين من مسيحيين ودروز إلى قطائعهم، ولكنه لم يكن ليحترمهم كثيرا فرأى الدروز منه تغيرا عليهم، ولا سيما بعد عودة مشايخهم من منفاهم في سنار وغيرها، وهم موغرو الصدور على الأمراء الشهابيين والمسيحيين. ثم رأى الدروز أن النصارى الذين في قطائعهم متغيرون عليهم، ولا سيما في عاداتهم القديمة بالانقياد التام إليهم، فأوجسوا من ذلك خوفا وأضمروا لهم السوء، على أن الأمير الحاكم لم يكن ليبالي بذلك، ولا سعى برقع الخرق قبل اتساعه؛ فسرت روح التحاسد والتضاغن بين المسيحيين والدروز ونمت بمساعي المفسدين نمو الجراثيم (المكروبات) في المستنقعات، وتحولت الأحزاب دينية بحتة بعد أن كانت سياسية مدنية منذ القديم، وجاشت صدور الفريقين بالحقد للانتقام.
وفي أول تموز سنة 1841م حدث خلاف بين بعض سكان دير القمر من بني البستاني وبين بعض سكان بعقلين على صيد حجل، فدخل الديريون بعقلين ثم جاء الدروز الدير وحاصروها في أوائل أيلول. وفي الثالث منه جاء زحلة رسول من دير القمر يستصرخ سكانها لمعاضدة إخوانهم الديريين المحاصرين، فأرسل الزحليون من فورهم رسلا مسلحين إلى أسقفهم المطران باسيليوس شاهيات المار ذكره؛ لأنه لم يكن أسقف غيره لبقية الطوائف يقيم في زحلة، وكان هذا في طوافه على الرعية مع الشماس فيلبس النمير، فاستقدم من بر إلياس فوصل زحلة في الرابع من أيلول، وعقد جلسة اجتمع فيها شيوخ البلدة وزعماؤها وأقروا على مفاوضة السيد يوسف حبيش بطريرك الطائفة المارونية، وعاد المطران باسيليوس إلى طوافه متوقعا الجواب. ففي الثامن من أيلول أرسل إليه الزحليون مخول الجبلي، فعاد مع شماسه المذكور من قب إلياس وبعد المداولة جهز الزحليون نحو خمسمائة فارس وألف راجل ليسيروا إلى دير القمر، ولكنهم علموا أن الدروز واقفون لهم بالمرصاد وقاطعون عن الدير كل طريق، فتغير رأيهم هذا يوم الخميس في الثاني من تشرين الأول، واستبدل بإرسال نحو خمسمائة مقاتل في ذلك اليوم من نخبة أعيانهم، مثل عبد الله أبي خاطر وابن عمه حنا وبطرس أبي ضاهر المعلوف ونسيبه مراد وهبه قيامة وعساف مسلم وابن عمه ناصيف وأبي عساف جرجس الحاج شاهين وابن عمه إبراهيم بن أنطون ومخول غره وخليل حجي وناصيف جدعون وأبي شبل ناصيف أبي عقل. وكان حملة الإعلام الزحلية أبو لولو خليل الجريجيري وعبد النور الششم وأبو عيطا النمير ويوسف بشارة الخياط ، وكان بين هذا المعسكر بعض نصارى العرقوب الذين التجأوا إلى زحلة، فساروا على طريق المريجات إلى أن وصلوا تجاه عالية في محلة (النقارات)، فالتقاهم نحو ألف من الدروز بقيادة الشيخ حسن تلحوق والشيخ يوسف شبلي عبد الملك. فتقابلا وتحاربا يوم السبت في الرابع من تشرين الأول. فثبت الزحليون في مواقف القتال وفرسانهم المذكورون يحمونهم إلى أن تمكنوا من إبعاد الدروز عن الطريق بعد أن قتلوا منهم نحو خمسة وعشرين رجلا، ولم يقتل من الزحليين إلا أربعة أحدهم إلياس الدويليبي.
فسار الزحليون إلى بعبدا؛ حيث كان العسكر اللبناني مقيما هناك، وعدده نحو عشرة آلاف مقاتل مع قواده الأبطال، مثل الأمراء ملحم حيدر، وسلمان سيد أحمد، وأخيه فارس من الشهابيين، وحيدر إسماعيل من بكفيا، وأسعد فارس من بسكنتا، وبشير أحمد وعلي منصور من برمانا من اللمعيين، والمشايخ كنعان بان وكسروان من الخازنين وخليل حمزة من الحبشيين. فانضم إليهم الزحليون واجتمع كبارهم بكبار اللبنانيين يديرون حركة عساكرهم، ويتداولون بالشئون الحاضرة. فعقدوا جلسات متتابعة تباحثوا فيها في إنقاذ دير القمر من الحصار، فقرروا أن ينتخب ثلاثة آلاف مقاتل وقائدهم (عقيدهم) الأميران قيس ملحم الشهابي وسلطان الطرودي من آل فارس اللمعيين من بسكنتا والشيخ نقولا الخازن من كسروان وبشاره طربيه من تنورين، فزحفوا من بعبدا إلى عبيه. وكان سكان الشويفات، قد تعاهدوا من مسيحيين ودروز أن لا يدخلوا في هذه الحرب؛ بل يكونون على حيادة. فهاجم العسكر اللبناني الشويفات والتقاهم سكانها بقوة عظيمة وثبات غريب، فأحادوهم عن الطريق ثم سار شبلي المعلوف بأنسبائه الكفر عقابيين وكثير من الزحليين، يرافقهم الأمير شديد عبد الله مراد اللمعي ويوسف الشنتيري من بكفيا وجميعهم نحو مائة وخمسين مقاتلا، حتى اجتازوا نهر الغدير بين بعبدا وكفر شيما، فالتقوا بالدروز فحمي وطيس القتال بينهم، فثبت المسيحيون ثبوت الأبطال وأبدى شبلي في ذلك اليوم من البسالة ما يتناقله الشيوخ إلى يومنا، وبقوا إلى عصر ذلك النهار وأزاحوا الدروز عن مركزهم إلى بسابا. ولما كلوا أرسلوا الأمير عبد الله اللمعي إلى نسيبه الأمير حيدر إسماعيل قيدبيه لينجدهم، وما بعد عنهم حتى وصل بطرس بك كرم الأهدني بخمس مائة مقاتل إلى بئر الوروار حيث كان عسكر الدروز واقفا بقيادة خطار بك العماد، فانضم إليهم عسكر بعبدا والتقى الصفان وتطاحنا، فكانت ساعة بيعت فيها الأرواح وزهقت النفوس، وثبت المسيحيون في مواقفهم وأصلوا الدروز نارا حامية، وما آذنت الشمس بالغروب حتى أشرقت شمس انتصار المسيحيين ودحروا خصومهم بعد أن قتل كثير من الفريقين.
وذهب نحو خمسين مقاتلا من زحلة ونابيه «المتن» وغزير (كسروان) بقيادة حنا أبي خطار الزحلي، فوصلوا إلى برج خلدة تحت الصحراء، وكان خطار بك العماد قد أرسل ثلاثمائة مقاتل من الدروز إلى صحراء الشويفات، فكمنوا بين أشجار الزيتون الغبياء، فأطلقوا الرصاص من مكامنهم على هذه الشرذمة، فجندلوها قتلى على الحضيض وهي لا تعلم من أين ينصب عليها الرصاص تباعا. أما قائدها حنا أبو خاطر فأبدى بسالة غريبة، ولما طارده الفرسان همز جواده إلى جهة البحر في محلة الأوزاعي، وأنزل حصانه فيه فسبح إلى أن ابتعد عنه الدروز، فخرج إلى البر ولحق عسكر عبيه بين الناعمة وبعورته المطلة على البحر، فأدركهم وهم ينتظرونه لما قابلوه من بعيد، فرأوه مخضبا بالدم هو وجواده وقص عليهم ما جرى له، فحمدوا الله على سلامته وأثنوا على بسالته. ثم وصل إلى العسكر عبد الله قادري من زحلة عريانا، وقد أفلت من بين أيدي الدروز الذين خلعوا عنه ثيابه وأرادوا ذبحه، فساعده أحدهم على الفرار. ثم أخبرهم أنه لم يبق أحد غيره من تلك الشرذمة التي كان يقودها حنا أبو خاطر.
وبينما هذا العسكر سائر رأى طلائع الدروز في بيصور فزحف عليها وأحرقها دحر الدروز، فقتل الشيخ بشارة طربيه من تنورين. ثم رجعوا جميعهم إلى عبيه فلبثوا فيها ثمانية أيام لم يتمكنوا في خلالها من الوصول إلى الدير؛ لانتشار عساكر الدروز في كل المعابر والمضايق والطرق، فعادوا إلى بعبدا وتفرق شمل بعضهم.
وما زالت المناوشات تتوالى والنصر يتراوح بين الفريقين حتى تغلب الدروز على المسيحيين لانقسام كلمتهم، فإنهم كانوا حزبين؛ أحدهما يريد إثارة القلاقل وتكدير صفاء الأمن لاستعادة الأمير بشير الكبير حاكما، وفريق يميل إلى تأييد الأمير بشير قاسم في ولايته. والدروز متفقون قلبا وقالبا على عدم قبولهم بحكم الأمراء الشهابيين ومنحازون إلى إسناد الولاية إلى حاكم غريب غير مسيحي، وعمت المواقع ساحل بيروت والغرب والشحار ودير القمر والمتن. ثم أخمدت نيران الفتنة بإخراج الأمير بشير قاسم من بيت الدين بواسطة أيوب باشا قائد العسكر العثماني والجنرال روز والسيد عبد الفتاح «فتيحه» حمادة الذي تولى وكالة الحكم.
وفي تلك الأثناء نقل مقر الولاية من عكاء إلى بيروت بأمر سلطاني، فسلخت هذه عن أيالة صيداء وتبعت دمشق رأسا وعزل زكريا باشا الذي خلف عزت باشا، ونصب عوضه سليم باشا وكان هذا رئيس العسكر (سر عسكر). (10) موقعة العريان
وعاد الزحليون إلى بلدتهم بعد أن نازلوا هم والعسكر اللبناني عسكر الدروز في موقعة بعبدا الشهيرة وظفروا بهم، وقد قتل من الفريقين خلق كثير، وكان ذلك في أثناء شهر تشرين الأول سنة 1841. وبينما هم يتأهبون للتفرغ من القتال إلى معاودة الأشغال، إذ بنبأ تجمع الدروز للزحف على زحلة يطرق آذانهم ويقلق خواطرهم، وكان الدروز قد نووا أن يفعلوا بزحلة كما فعلوا بدير القمر والبلدتان عاصمتا المسيحيين، وكان شبلي العريان
Bilinmeyen sayfa