فلأمر ما تصورت الحكومة في الخمسينيات والستينيات أنها تستطيع أن تضرب الوطنيين والحزبيين واليساريين بتملق العواطف الدينية لدى جماهير شعبنا المؤمن حقا وبالسليقة، والمصريون معروفون بتدينهم الحكيم، حتى الشعوب العربية ومنها شعب المملكة العربية السعودية حيث الكعبة وقبر النبي عليه الصلاة والسلام يعترفون بأن الشعب المصري وأزهره الشريف كانا هما الدعامة الرئيسية التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية منذ انحلال الدولة الأموية والعباسية.
وهكذا في الوقت الذي تبنت فيه حكومة الرئيس عبد الناصر قضايا التحرر الوطني في كل أنحاء الوطن العربي وأفريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية بدأت البرامج الدينية تأخذ طريقها إلى الإذاعة والصحافة ولم يكن التليفزيون قد أنشئ بعد.
ولقد كنت أتابع كثيرا من تلك الأحاديث وأتعجب؛ ذلك أن الإسلام موضوع كبير جدا لا يمكن أن ينتهي الحديث عنه، بينما تلك الأحاديث كانت تركز على نقطة تكاد تكون واحدة لا تتغير وهي إشعار الشعب وأفراد الشعب بنواقصهم الدينية، وبأنهم لا يعبدون الله كما يجب بحيث يتناسى أفراد الشعب مشكلتهم كمجتمع مع الدولة أو الحكومة وانعدام الديمقراطية في الحكم أو حتى الشورى، وتصبح مشكلة الواحد منهم هي إحساسه بالنقص في كم ونوع تدينه، وليست المشكلة أبدا هي حكم الفرد المطلق واستئثاره الكامل بالسلطة، واستئثاره أيضا بقرارات خطيرة مثل قرارات إعلان الحرب أو إيقاف القتال أو إرسال الجيش المصري إلى اليمن أو الكونغو.
وأنا آسف حقا وأنا أقول هذا فأنا أكن لعبد الناصر الزعيم كما وافرا من الاحترام والتقدير؛ إذ يكفي أنه كحاكم لم يخن أبدا قضيتنا الوطنية ولم يساوم أبدا عليها.
ونأتي لعصر الرئيس السادات ذلك الذي رفع شعار المنابر ثم حولها إلى أحزاب وديمقراطية ساداتية استأثر فيها أيضا بالقرار وبتغيير السياسة المصرية 180 درجة. هنا أيضا لم يكتف الرئيس السادات بتكثيف الجرعة الدينية في وسائل الإعلام، بل وبتقوية المنظمات الشبابية الدينية لضرب الطلبة اليساريين، ولكنه رفع نفسه أيضا من رئيس دولة إلى الرئيس المؤمن، أي إلى مصاف الرسل. وكان التليفزيون قد تربع على عرش الأسرة المصرية والشعب كله، ذلك الجهاز الغريب الذي تفتقت عنه العبقرية الصناعية الغربية ويمثل أحدث وأخطر الوسائل لمخاطبة الرأي العام.
وإذا كنت هنا أذكر التليفزيون بشكل خاص فلأن أثره لا يعادل آثار كل وسائل الإعلام مجتمعة من صحافة وكتب وإذاعة فقط، ولكن أثره يعادل مئات بل آلاف المرات تلك الوسائل. إن متوسط عدد المشاهدين للتليفزيون في مصر لا يقل عن الثلاثين مليونا، بينما مستمعو الإذاعة وقراء الصحف والكتب يقلون بكثير جدا عن هذا العدد، وليست المسألة أعدادا فقط، ولكن القراءة شيء والاستماع شيء، والرؤية شيء آخر تماما؛ فالتليفزيون يحرك ويوقظ كل حواس الإنسان، وفي نفس الوقت لا يتطلب منه أي مجهود بالمرة، فهو يستلقي أمامه في سلبية مطلقة تاركا لمواده وكلماته أن تفعل فعلها فيه دون أي مقاومة تذكر خاصة وأن 80٪ من مشاهديه من الأميين.
ولذلك فالمجتمعات الأوروبية بالذات تستعمل هذا السلاح الخطير بقدر محكوم، ولقد فوجئت مثلا وأنا في السويد بأن التليفزيون لا يذيع إلا ثلاث ساعات كل يوم، ومعظمها إما مواد تعليمية وإما إرشادات للزراع أو للعمل، وإما موضوعات ثقافية ترفع من وعي المواطنين وقدراتهم على استيعاب مجتمعهم وعيوبه واستيعاب العصر كله، وكذلك التليفزيون البريطاني. إني أتعمد كلما ذهبت إلى لندن أن أذهب إليها يوم جمعة لكي يتاح لي أن أبقى يومي السبت والأحد رابضا أمام التليفزيون أتعلم، أجل أتعلم، وبالذات من جامعة الهواء التي يتفننون في تحويل الرياضة البحتة مثلا والرياضة الحديثة وقوانين الكهرباء المعقدة إلى صور ونماذج متحركة تثير شهيتك إلى المعرفة والتعلم، أما في برامج المساء فالحديث هو حوار مفتوح حول مشاكل المجتمع البريطاني الخارجية والداخلية وبالذات مشاكل التعليم والمدارس والصحة، وكل هذا بأسلوب رائع جميل لا يمكنك معه أن تغلق القناة أو تتحول إلى أخرى.
هنا في مصر حين أدخلنا التليفزيون أدخلناه لأسباب حكومية محضة؛ فهو إرسال الحكومة إلى الشعب يحمل أوامرها ونواهيها، أما ما يقوله الشعب وما يريد إيصاله للمسئولين فسلكه مقطوع تماما، حتى نشرة الأخبار، يقوم حادث جلل في العالم مثل الحرب بين العراق وإيران، ولكن لأن نشرة الأخبار هي نشرة الدولة فلا بد من مقابلات الرئيس أولا ثم مقابلات رئيس الوزراء ثم رئيسي مجلسي الشعب والشورى والوزراء، وأخيرا يأتي الخبر الذي يحتل الصفحات الأولى لصحف العالم ونشرات أخباره.
وأيضا ليس هذا موضوعنا ولا أريد بهذا الكلام أن أنقد أي مسئول تليفزيوني أو إعلامي سابق أو حالي؛ فأنا أعرف والكل يعرف أنهم أناس ينفذون أوامر.
ومن ضمن هذه الأوامر تعلق جماهير مسلمينا بإغراقهم بفيض من الأحاديث التي لا يكاد يتابعها المتفقه في أمور الدين والتي لا تتصل من قريب أو بعيد بمشاكل المواطنين الدنيوية الهائلة: في برنامج اسمه حديث الروح استمعت إلى حلقة اسمها قضاء حاجات المسلمين، وفرحت بالاسم، وبكل ما أملك رحت أنصت؛ فهو موضوع يهم المسلمين وقضاء حاجاتهم من الوصايا الإسلامية العظمى، فإذا بالشيخ الجليل يحدثنا عن آداب دخول المرحاض في الإسلام، وكيف لا بد أن تدخل المرحاض بقدمك اليسرى وأن تجلس وأنت غير مواجه الكعبة الشريفة ... وكدت أصعق، ولكن لا غرابة، فما أكثر الأحاديث التي سمعتها بعد هذا وما كان أبعدها جميعا - إلا قلة نادرة - في البعد، ليس فقط عن هموم الناس ومشاكلها وإنما عن الحقيقة أيضا. وذات مرة استمعت إلى شيخ جليل آخر مفسرا للآية الكريمة:
Bilinmeyen sayfa