يا إلهي، لكأنني في قاعة فرن فلاحي قد سدت منافذها وأغلق بابها، وقد امتلأت بدخان الحطب المندي.
ربما الذي دفعني للإحساس بذلك المشهد المهول الذي لا يمكن أن يحتمله أحد هو أنني كنت عائدا لتوي، ليس من لندن أو باريس، وإنما من قلب أفريقيا، كينيا، وتنزانيا، والصومال، وأفريقيا بلاد أفقر منا بكثير، ومعظم شوارع ممباسا أو دار السلام ليست مرصوفة وإنما هي مسواة على حالها الترابي، ولكن ليس هناك تلوث بمثل هذه الكثافة الخانقة. أذكر أني كنت في نيروبي، وكنت في طريقي لاتحاد الكتاب الكينيين وكنت أستقل عربة تاكسي، وكان سائقي اسمه إيليا، وكان مسلما، ولما سألته عن هذه المعادلة الغريبة، قال لي: في عهد الاستعمار لم يكن يسمح بدخول المدارس إلا للمسيحيين فقط؛ ولهذا كان كثير من المسلمين يسمون أولادهم بأسماء مسيحية، كاثوليكية في الغالب، ليمكنهم دخول المدارس، وأنه بعد جلاء الاستعمار بدأت كثرة من تلك العائلات في العودة إلى تسمية أبنائها بأسماء إسلامية.
لا أريد أن أطيل، فأثناء دردشتي مع السائق بدأت العصبية وكثير من الغضب يحفل بهما صوته، ثم نطقها وقال: هذا السائق الملعون، ونظرت فرأيت أمامنا سائق عربة نقل، وكانت العربة هي الوحيدة التي «يفوت» موتورها وينفث دخانا نتيجة اختلاط الزيت بالبنزين داخل المحرك، تلفت حولي فإذا بنا نسير داخل غابة خضراء يانعة يقطعها هذا الطريق الرفيع، والغابة كما نعرف تولد الأكسجين، ومعظم كينيا وشرق أفريقيا غابات خضراء شاسعة، ومع هذا، ونظرا لاحتمال زحف التصحر، من الصحراء، مع سنوات الجفاف الطويلة، فقد بدأت كينيا منذ ثلاث سنوات مشروعا اسمه مشروع الشجرة؛ إذ يزرعون كل يوم مائة شجرة جديدة، داخل بلاد تحفل بغابات وغابات من الأشجار، كل هذا خوفا على البلاد والمدن من تلوث الهواء.
وصل الغضب بإيليا أقصاه، وبدأ محاولات خطرة مستميتة لكي «يعدي» عربة النقل التي تنفث دخان الزيت وهو يصرخ: تلوث ... تلوث ...
هذا السائق البسيط يرعبه هذا التلوث، ويعرف معناه بالإنجليزية في بلاد لا تكاد تحفل بأية آثار للتلوث؟! المضحك أني عرفت من سفيرنا في كينيا الصديق محمود عثمان أن في كينيا بعثة لدراسة البيئة والتلوث يرأسها الدكتور مصطفى، واحد من أعظم خبراء البيئة والتلوث في العالم، وموفد هو والبعثة لدراسة التلوث في حديقة أفريقيا، كينيا.
أليس هذا ظلما يا إلهي ما بعده ظلم؟ يعني ننتج نحن الشعب المصري أكبر خبراء العالم في التلوث، وتحفل قاهرتنا الحبيبة بأعلى نسبة للتلوث في العالم إلى درجة أنها وصلت في بعض الأحياء، وبالطبع لا بد أنها كذلك في تقاطع 26 يوليو مع الجلاء، وصلت إلى درجة ألف في المائة من الحد الأعلى للتسمم التلوثي.
كل هذا ونحن نتنفس التلوث ونبتلع الذرات الخانقة، وتمتلئ رئتنا بعادم النقل والأتوبيس، والمرور لا يفتش أبدا على العادم، يكفيه البوية ورقم الشاسيه والموتور، ويتم الكشف على المركبة، بينما العادم يترك ليضخ في شوارعنا وصدورنا ملايين الأمتار المكعبة من الزيت العادم، ناهيك عن التراب وبقية ما تثيره الرياح من قاذورات، كل هذا وثمة مؤتمر للبيئة، مؤتمر عظيم مهول أسفت تماما أنني لم أتابعه بنفسي شخصيا، انعقد خلال بضعة الأسابيع الماضية لدراسة التلوث البيئي في مصر، وتلوث مياه النيل، والتلوث الصوتي الناتج عن استعمال الميكروفونات وبقية الضجات الصادرة من الشارع المصري بطريقة لا يمكن أن تحتملها أي أذن بشرية، وإذا احتملتها فلا بد أن تصيب العقل الذي يسمعها بالصمم أحيانا، وبارتباك الوظائف وبالانعدام التام للقدرة على التركيز أو إنجاز النشاطات العقلية الواجب القيام بها.
لهذا أنت ترى المواطن في شارع القاهرة ثائرا يلهث من قلة الأوكسجين، تائه الوجهة والتركيز من ضجة الأصوات والميكروفونات، سريعا ما يصيبه الكلل والتعب، نافد الصبر، بطيء الحركة، مصابا بما أسميته «التولة» غالبا ما ينتهي أمره إلى كلفتة عمله، أو الانهيار جلوسا على قهوة، أو أمام مكتب وارم القلب والعقل يلهث بلا تعب ويعرق بلا أي مجهود، ويقصر عمره ويزداد وزنه من قلة الحركة والنشاط؛ فهو يعيش في جهنم مليئة بالتلوث، والدخان، والغبار، والضجة الخرافية تحاصره ولا حفنة من هواء نقي، أو هدوء، يستطيع معها أن يلتقط أنفاسه أو أنفاس عقله، ويعود كائنا بشريا يصلح بما يصلح له أي كائن بشري في أي مكان آخر من العالم.
لقد أصبحت الحياة في قاهرتنا الحبيبة مع كل ما تحفل به من تلوث في الجو وفي الماء وفي الأصوات، أصبحت معجزة العالم الثامنة لا بد، فإني لأكتب هذا وأتساءل: كيف بالله ما زلنا نحيا؟
وأعقبه بتساؤل آخر موجه إلى حكومتنا: كيف تحكمين الناس والبلاد وهي تحفل بهذا الكم من التلوث؟
Bilinmeyen sayfa