Madhkira Usul al-Fiqh ala Rawdat al-Nazir
مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر- ط عطاءات العلم
Yayıncı
دار عطاءات العلم (الرياض)
Baskı Numarası
الخامسة
Yayın Yılı
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Yayın Yeri
دار ابن حزم (بيروت)
Türler
آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (٦)
مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (١٣٢٥ هـ - ١٣٩٣ هـ)
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حقيقة الحكم وأقسامه
اعلم أنَّه ﵀ ترجم هذه الترجمة التي لفظها (حقيقة الحكم وأقسامه) ولم يبين حقيقة الحكم ولا أقسامه، وإنَّما ذكر منها الأقسام الشرعية فقط، ونحن نبين كل ذلك إن شاء اللَّه تعالى.
اعلم أنَّ الحكم في اللغة: هو المنع. ومنه قيل للقضاء: حكم؛ لأنه يمنع من غير المَقْضِيِّ.
تقول: حَكَمَه كنَصَرَه، وأحكمه كأكرمه، وحكَّمه بالتضعيف بمعنى منعه. ومنه قول جرير:
أَبَنِي حنيفة أَحْكِمُوا سفهاءكم ... إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا
وقول حسان بن ثابت ﵁:
لنا في كل يومٍ مِن مَعَدٍّ ... سبابٌ أو قتالٌ أو هجاءُ
فنحكم بالقوافي مَنْ هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماءُ
ومن الحكم بمعنى المنع: حَكَمَةُ اللجام، وهي ما أحاط بحنكي الدابة، سُمِّيَتْ بذلك لأنَّها تمنَعها من الجري الشديد.
والحَكَمةُ أيضًا: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه، تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القِدِّ والأبق وهو القنب. ومنه قول زهير:
1 / 5
القائد الخيل منكوبًا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القِدِّ والأبقا
والحكم في الاصطلاح هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. نحو: زيد قائم وعمرو ليس بقائم.
وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام:
١ - حكم عقلي: وهو ما يعرف فيه العقلُ النسبةَ إيجابًا أو سلبًا. نحو: الكل أكبر من الجزء إيجابًا. الجزء ليس أكبر من الكل سلبًا.
٢ - حكم عادي: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة. نحو: السيقمونيا مسهل للصفراء، والسكنجبين مسكن لها.
٣ - حكم شرعي: وهو المقصود، وحَدَّه جماعة من أهل الأصول بأنه: خطاب اللَّه المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به.
فخرج بقوله: "خطاب اللَّه" خطاب غيره؛ لأنه لا حكم شرعيًّا إلا لله وحده جلَّ وعلا، فكل تشريع من غيره باطل، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام/ ٥٧]، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى/ ١٠]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/ ٥٩].
وخرج بقوله: "المتعلق بفعل المكلف" ما تعلق بذات اللَّه تعالى، نحو: "لا إله إلا اللَّه"، وما تعلق بفعله نحو قوله تعالى: ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام/ ١٠٢]، وما يتعلق بذوات المكلفين نحو: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ الآية [الأعراف/ ١١]، وما تعلق بالجمادات نحو: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾ [الكهف/ ٤٧].
1 / 6
وخرج بقوله "من حيث أنه مكلف به" خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلَّف لا من حيث أنه مكلَّف به، كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)﴾ [الانفطار/ ١٢]، فإنه خطاب من اللَّه متعلق بفعل المكلف من حيث إن الحفظة يعلمونه، لا من حيث إنه مكلف به.
واعلم أنَّ عبارات الأصوليين اضطربت في تعريف الحكم الشرعي، وسبب اضطرابها أمران:
أحدهما: أنَّ بعضَ المكلفين غير موجود وقتَ الخطاب، والمعدوم ليس بشيء حتى يخاطب.
ثانيهما: زعمهم أنَّ الخطاب هو نفس المعنى الأزلي القائم بالذات المجردِ عن الصيغة.
وسنبين إن شاء اللَّه تعالى غلطهم الذي سبَّب لهم تلك الإشكالات في مبحث الأمر.
واعلم أنَّ الحكم الشرعيَّ قسمان:
أولهما: تكليفي، وهو خمسة أقسام: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام.
والثاني: خطاب الوضع، وهو أربعة أقسام: العلل والأسباب والشروط والموانع.
وأدخل بعضُهم فيه الصحةَ والفساد، والرخصةَ والعزيمة، وبعضُهم يجعل الصحة والفساد من خطاب التكليف.
1 / 7
إذا علمت ذلك فهذه تفاصيل الأحكام الشرعية.
قال المؤلف (^١) ﵀:
(أقسامُ أحكام التكليف خمسة: واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور).
التكليف لغة: هو إلزام ما فيه كلفة، أي مشقة.
ومنه قول الخنساء:
يُكَلِّفُه القومُ ما نابهم ... وإنْ كان أصغرهم مولدًا
وقول علقمة بن عبدة التميمي:
تكلِّفني ليلى وقد شَطَّ وَلْيُها ... وعادت عوادٍ بيننا وخطوبُ
وحده في الاصطلاخ: قيل: "إلزام ما فيه مشقة".
وقيل: "طلب ما فيه مشقة".
فعلى الأول لا يدخل في حده إلا الواجب والحرام؛ إذْ لا إلزام بغيرهما، وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه؛ لأنَّ الأربعة مطلوبة.
وأما الجائز فلا يدخل في تعريف من تعاريف التكليف؛ إذْ لا طلب به أصلًا، فعلا ولا تركًا، وإنَّما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحةً
_________
(^١) يعني ابن قدامة في كتابه "روضة الناظر وجنة المناظر" (١/ ١٤٦)، تحقيق د. عبد الكريم النملة، مكتبة الرشد، الطبعة السابعة.
1 / 8
وتكميلًا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (^١): (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إمَّا أنْ يَرِدَ باقتضاءِ الفعلِ أو التركِ أو التخيير بينهما، فالذي يَرِدُ باقتضاءِ الفعل أمرٌ، فإن اقترن به إشعارٌ بعدم العقاب على الترك فهو ندب، وإلا فيكون إيجابًا، والذي يَرِدُ باقتضاء التركِ نهيٌ، فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهةٌ، وإلا فحظرٌ).
كلامه واضح.
الواجب
ثم قال (^٢): (وحد الواجب: "ما تُوُعِّدَ بالعقاب على تركه".
وقيل: "ما يعاقب تاركه".
وقيل: "ما يلزم تاركه شرعًا العقاب").
اعلم أولًا: أنَّ الوجوب في اللغة هو سقوط الشيء لازمًا محلَّه، كسقوط الشخص ميتًا، فإنه يسقط لازمًا محلَّه لانقطاع حركته بالموت، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج/ ٣٦] أي سقطت ميتة لازمة محلَّها، وقوله ﷺ في الميت: "فإذا وجب فلا تبكين باكية".
وقول قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوفٍ أميرًا نهاهمُ ... عن السِّلْمِ حتى كان أول واجبِ
ويطلق الوجوب على اللزوم.
_________
(^١) (١/ ١٤٦ - ١٤٨).
(^٢) (١/ ١٥٠).
1 / 9
وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه: "ما تُوُعِّدَ بالعقاب على تركه". والوعيد بالعقاب على تركه لا ينافي المغفرة، كما بيَّنه تعالى بقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء/ ٤٨].
وإن شئت قلت في حد الواجب: "ما أُمر به أمرًا جازمًا".
وضابطه: أن فاعله موعود بالثواب، وتاركه متوعد بالعقاب، كالصلاة والزكاة والصوم.
قال المؤلف (^١) ﵀:
(والفرض هو الواجب على إحدى الروايتين).
فحاصل كلامه أنَّ الفرض هو الواجب على إحدى الروايتين، وهو قول الشافعي ومالك، وعلى الرواية الأخرى فالفرض آكدُ من الواجب، فالفرضُ ما ثبت بدليل قطعيٍّ كالصلاة، والواجب ما ثبت بدليل ظنيٍّ كالعمرة عند من أوجبها، وهو قول أبي حنيفة.
وقيل: الفرضُ ما لا يسامَحُ بتركه عمدًا ولا سهوًا كأركان الصلاة، والواجب ما يسامَحُ فيه إن وقع من غير عمدٍ كالصلاة بالنجاسة عند من يقول بالمسامحة في ذلك.
واصطلح كثير من العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة على إطلاق الواجب على السنة المؤكدة تأكيدًا قويًّا.
_________
(^١) (١/ ١٥١).
1 / 10
فصل
قال المؤلف (^١) ﵀:
(والواجب ينقسم إلى معيَّن وإلى مبهم في أقسام محصورة. . .).
اعلم أن الواجب ينقسمُ ثلاثة تقسيمات:
١ - ينقسم باعتبار ذاته إلى واجب معيَّن لا يقومُ غيرُه مقامه، كالصوم والصلاة.
وإلى مبهم في أقسام محصورة، فهو واجبٌ لا بعينه، كواحدةٍ من خصال الكفارة في قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة/ ٨٩]، فالواجب واحد منها لا بعينه، فأي واحد فعله الحانث أجزأه.
وزَعْمُ المعتزلة أنَّ التخيير مطلقًا ينافي ذلك الوجوب باطلٌ؛ لأنَّه لم يخير بين الفعل والترك تخييرًا مطلقًا حتى ينافي ذلك الوجوب، بل لا يجوز ترك بعضها إلا مشروطًا بفعل بعضٍ آخر منها، فلو ترك جميعها لكان آثمًا، ولا خيار له في ترك الجميع، ولا يجب عليه فعل جميعها إجماعًا.
فتبين أن الواجب واحدٌ منها لا بعينه؛ لأن كل واحد منها يفي بالمقصود الشرعي، ولا يحصل دون واحد منها.
_________
(^١) (١/ ١٥٦).
1 / 11
وكذلك غير المحصورة، كإعتاق رقبة في الظهار أو اليمين، فإن الواجب في ذلك رقبة لا بعينها من غير حصر لما تجب منه.
ونظير ذلك تزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين، وعقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين؛ فإن كل ذلك يجب في واحد لا بعينه، ولا يمكن أن يقال فيه بإيجاب الجميع ولا بسقوط إيجاب الجميع كما ترى.
٢ - وينقسمُ الواجبُ -أيضًا- باعتبار وقته إلى مضيَّقٍ وموسَّع.
فالواجبُ المضيَّقٌ: هو ما وقتُه مضيَّق.
وضابطُ ما وقتُه مضيَّقٌ واجبًا كان أو غيره: هو ما لا يسع وقتُه أكثر من فعله، كصومِ رمضانَ في الواجب، وستة من شوال عند من يقول بأنَّها لابد أَن تكون متتابعة تلي يوم الفطر، وهو ظاهر حديث أبي أيوب، وحديث ثوبان، والأيام البيضِ في غير الواجب.
والواجبُ الموسَّعُ هو ما يسعُ وقتُه أكثر من فعله، كالصلوات الخمس. ومثالُه في غير الواجب: الوتر، وركعتا الفجر، والعيدان، والضحى.
والوقت في الاصطلاح: هو الزمن الذي قدَّره الشارع للعبادة.
وما زعمه بعضهم من أنَّ الواجب الموسع مستحيل، زاعمًا أنَّ التخيير في فعل العبادة ذات الوقت الموسع في أول الوقت ووسطه ينافي الوجوب، إذ الواجب حتمٌ، لا تخييرَ فيه، ولا يجوز تركه = فهو باطل -أي الزعم بأنَّ الواجب الموسع مستحيل-؛ لأن الواجب
1 / 12
الموسع من قبيل الواجب المبهم في واحد لا بعينه، كالصلاة يجب أن تؤدى في حصةٍ من حصص الوقت لا بعينها، كوجوب واحدةٍ من خصال الكفارة لا بعينها، فأي حصة من حصص الوقت من أوله أو وسطه أو آخره فعل فيها الصلاة أجزأته، كما أن أي واحدة من خصال الكفارة فعلها أجزأته.
وقد أجمع العلماءُ على أنَّ من أدى الصلاة في أول وقتها أنه يثاب ثواب الفرض، وتلزمه نية الفرض -محلُّ الاستدلال لزومُ نية الفرض مع جواز التأخير-؛ فدلَّ ذلك على بطلان قول من قال: إنه لو وجبت في أول الوقت لما جاز ترك أدائها إلى وسط الوقت أو آخره، وتبين أنها غير واجبة في أول الوقت، لأن التخيير في تركها في ذلك الوقت إلى ما بعده ينافي الوجوب، ولا شك أن ذلك كله باطل كما بينا.
٣ - وينقسم الواجبُ -أيضًا- باعتبار فاعله إلى واجب عينيٍّ وواجب على الكفاية.
فالواجب العيني: هو ما يَنْظُرُ فيه الشارع إلى ذات الفاعل، كالصلاة والزكاة والصوم؛ لأن كل شخص تلزمه بعينه طاعة اللَّه ﷿؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات/ ٥٦].
وأمَّا الواجب على الكفاية فضابطه أنه ما يَنْظُرُ فيه الشارعُ إلى نفس الفعل، بقطع النظر عن فاعله، كدفن الميت، وإنقاذ الغريق، ونحو ذلك؛ فإنَّ الشارع لم ينظر إلى عين الشخص الذي يدفن الميت أو ينقذ الغريق، إذ لا فرق عنده في ذلك بين زيد وعمرو، وإنما ينظر إلى نفس
1 / 13
الفعل الذي هو الدفن والإنقاذ مثلًا، وستأتي مسألة فرضِ الكفاية في مباحث الأمر -إن شاء اللَّه تعالى-.
فصل
قال المؤلف (^١):
(إذا أخرَّ الواجب الموسَّع فمات في أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيًا. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أنَّ المكلف إذا مات في أول الوقت أو وسطه والحال أنه لم يؤدِّ الصلاة لم يمت عاصيًا؛ لأن الوقت موسع، والوقت الموسع يجوزُ للإنسان أن يأتي بالصلاة في أية حصة شاءها من حصصه، سواءً كانت من أوله أو وسطه أو آخره.
وأمَّا إن مات والحالُ أنه لم يبق من الوقت قدر ما يسع الصلاة، فإنه إذًا يموت غير عاصٍ فيما إذا لم يغلبْ على ظنه أنه يموت في أول الوقت أو وسطه، كالمحكوم عليه بالقتل مع تعيين وقت التنفيذ؛ لأن الوقت يضيق في حقِّه بسبب ظن الموت.
فلو تخلف الظن وسلم من الموت، وأدى الصلاة في آخر الوقت، فهل تكون صلاته أداء -وهو الظاهر؛ لوقوعها في الوقت- أو تكون قضاءً ولو وقعت في آخر الوقت، بناءً على أن الوقت ضاق في حقه بسبب ظن الموت، بدليل أنه لو مات في الوقت مع ظن الموت
_________
(^١) (١/ ١٧٧).
1 / 14
ولم يبادر بالصلاة مات عاصيًا؟
فصل
قال المؤلف (^١):
(ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى ما ليس داخلًا تحت قدرة المكلف، كالقدرة واليد في الكتابة، وحضور الإمام والعدد في الجمعة، فلا يوصف بوجوب.
وإلى ما هو داخلٌ تحت قدرة العبد فيما يتعلقُ باختيار العبد، كالطهارة للصلاة، والسعي للجمعة، وغسل جزءٍ من الرأس، وإمساك جزءٍ من الليل مع النهار في الصوم، فهو واجب. . .) الخ.
حاصل معنى كلامه ﵀ أنَّ ما لا يتم الواجب إلَّا به قسمان:
١ - قسم ليس تحت قدرة العبد، كزوال الشمس لوجوب الظهر، وككون مَنْ تعينت عليه الكتابةُ مقطوع اليدين، وكحضور الإمام والعدد الذي لا تصح الجمعة بدونه، فلا قدرة للمكلَّف على قهر الإمام والجماعة على الحضور إلى المسجد، فهذا النوعُ لا يوصف بوجوبٍ إلَّا على قول من جوَّز التكليف بما لا يُطاق، وهو مذهبٌ باطلٌ مردود.
٢ - وقسمٌ تحت قدرة العبد، كالطهارة للصلاة، والسعي للجمعة، وغسل جزءٍ من الرأس، إذْ لا يتحققُ تعميمُ غسل الوجه إلا
_________
(^١) (١/ ١٨٠).
1 / 15
بغسل جزءٍ يسير من الرأس، وإمساك جزءٍ من الليل مع النهار، إذ لا يتحقق الإمساك في جميع نهار رمضان إلا بإِمساك جزء يسير من الليل، بناءً على أنَّ الغاية في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ الآية [البقرة/ ١٨٧] خارجة، وهو الصحيح؛ لأنَّ من أخَّر الإمساك عن جميع أجزاء الليل بتمامها فهو متناولٌ للفطر قطعًا في نهار رمضان، إذ لا واسطة بين الليل والنهار، وما جاء من الأحاديث موهمًا جوازَ تناولِ المفطر بعد الصبح، فهو محمولٌ على أن المراد به أنَّه في آخر جزءٍ من الليل، لشدة قربه من النهار.
وهذا القسم الأخير أعني ما هو تحت قدرة المكلَّف، قال المؤلفُ: إنه واجب. هذا حاصلُ معنى كلامه ﵀.
قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-: وهذا التقسيمُ غيرُ جيد.
وحاصلُ تحرير المقام أن يقال: ما لا يتم الواجب إلَّا به ثلاثة أقسام:
١ - قسمٌ ليس تحت قدرة العبد، كما مثَّلنا له آنفًا.
٢ - وقسمٌ تحت قدرة العبد عادةً إلا أنَّه لم يؤمر بتحصيله، كالنصاب لوجوب الزكاة، والاستطاعة لوجوب الحج، والإقامة لوجوب الصوم.
وهذان القسمان لا يجبان إجماعًا.
٣ - القسمُ الثالث: ما هو تحت قدرة العبد مع أنَّه مأمورٌ به، كالطهارة للصلاة، والسعي للجمعة. . . الخ. وهذا واجب على
1 / 16
التحقيق.
وإن شئت قلت: ما لا يتم الواجبُ المطلقُ إلا به فهو واجبٌ، كالطهارة للصلاة، وما لايتمُّ الواجب المعلَّق -أي المعلَّق على شرطٍ، كالزكاةِ معلقة على ملك النصاب، والحج على الاستطاعة- إلَّا به فليس بواجبٍ، كالنصاب للزكاة، والاستطاعة للحج.
وأوضح من هذا كلَّه أن تقول: مالا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، كالطهارة للصلاة، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، كالنصاب للزكاة.
تنبيه:
اعلم أنَّ الطهارة للصلاة واجبةٌ إجماعًا كما لا يخفى، وحينئذ فعلى أنَّ ما لا يتم الواجب المطلق إلَّا به واجب، فجميع النصوص الموجبة للصلاة توجب الطهارة؛ لأنها لا تتم إلَّا بها، وما لا يتم الواجب إلَّا به واجب، وإن كانت الطهارة واجبةً بأدلةٍ أخرى، إذْ لا مانع من تعدد الأدلة، وعلى العكس فالطهارة واجبةٌ بالنصوص الأخرى فقط دون النصوصِ الموجبة للصلاة.
فصل
قال المؤلف (^١) ﵀:
(وإذا اختلطت أختُه بأجنبيةٍ أو ميتةٌ بمذكاةٍ حرَّمنا الميتة بعلةِ
_________
(^١) (١/ ١٨٤).
1 / 17
الموتِ والأخرى بعلة الاشتباه).
هذه المسألةُ يترجم لها علماءُ الأصول بقولهم: "ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب".
فإن اختلطت ميتةٌ بمذكاة، أو أختُه بأجنبيةٍ، فلا يتم تركُ الحرام الذي هو أكلُ الميتة في الأول ونكاحُ الأُخت في الثاني إلا بترك الجميع، فتركُ الجميع واجب.
وقول المؤلف ﵀: حرَّمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه، فيه نظرٌ؛ لأنَّ الميتة غيرُ معروفة بعينها، فالجميع محرَّم؛ لأنه لا يتم ترك الحرام إلا بترك الجميع، فكل واحدة أكل منها احتمل أن تكون هي الميتة.
وقول من قال: إنَّ المذكَّاة حلال، لكن يجب الكف عنها، ظاهر التناقض، كما بينه المؤلف.
فصل
قال المؤلف (^١):
(الواجب الذي لا يتقيد بحدٍّ محدودٍ، كالطمأنينة في الركوع والسجود. . .) الخ.
اعلم أولًا أنَّ الزيادة على الواجب لها حالتان:
_________
(^١) (١/ ١٨٦).
1 / 18
الأولى: أنْ تكون الزيادةُ على الواجب متميزةً عنه، كصلاة النافلة بالنسبة إلى الصلوات الخمس، وهذه الزيادة غيرُ واجبةٍ، كما هو واضح.
الثانية: أن تكون الزيادة غير متميزةٍ عن الواجب، كالزائد على قدر الفرض من الطمأنينة في الركوع والسجود ونحو ذلك، فقال قوم: الزيادة هنا واجبة؛ لأن الجميع امتثالٌ للأمر الواجب، ولم يتميزْ فيه واجب عن غيره، فالكلُّ واجب؛ لأنَّه امتثالٌ للواجب.
والحقُّ أنَّ الزائد غير واجب، والدليلُ على ذلك جوازُ تركه والاقتصار على ما يحصل به الفرض فقط من الطمأنينة من غير شرطٍ ولا بدلٍ.
المندوب
قال المؤلف (^١): (الثاني: المندوب).
خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أنَّ المندوب هو ما في فعله الثواب، وليس في تركه عقاب.
وهذا أجود التعريفين اللذين ذكرهما المؤلف.
وإن شئت قلت: ما أُمِرَ به أمرًا غير جازم.
والتحقيق أنَّ المندوب مأمورٌ به؛ لأنَّ الأمر قسمان:
١ - أمر جازم، أي في تركه العقاب، وهو الواجب.
_________
(^١) (١/ ١٨٩).
1 / 19
٢ - وأمر غير جازم، أي لا عقاب في تركه، وهو المندوب.
والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ [الحج/ ٧٧]. أي ومنه المندوب.
﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [لقمان/ ١٧] أي ومنه المندوب.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل/ ٩٠] أي ومن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو مندوب.
واحتجَّ من قال: إنَّ الندب غير مأمور به بقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)﴾ [النور/ ٦٣]، قالوا: في الآية التوعدُ على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندبُ لا يستلزمُ تركه شيئًا من ذلك.
وبحديث: "لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلَّ صلاة" مع أنه ندبهم إلى السواك، قالوا: فدلَّ ذلك على أنَّ الندب غير مأمور به.
والجوابُ أنَّ الأمر في الآية والحديث المذكورين يراد به الأمرُ الواجب، فلا ينافي أن يطلق الأمر -أيضًا- على غير الواجب، وقد قدَّمنا أنَّ الأمر يطلق على هذا وهذا.
وزعمُ من قال إنَّ الندب تخييرٌ؛ بدليل جواز تركه، والأمر استدعاءٌ وطلب، والتخيير والطلب متنافيان = زعمٌ غير صحيح؛ لأن الندب ليس تخييرًا مطلقًا؛ بدليل أن الفعل فيه أرجحُ من الترك؛ للثواب في فعله وعدم الثواب في تركه، ولأنَّ المندوب -أيضًا- مطلوبٌ إلا أنَّ
1 / 20
طلبه غير جازم.
والندب في اللغة: الدعاءُ إلى الفعل. ومنه قوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانًا
والثواب في اللغة: الجزاء مطلقًا. ومنه قوله:
لكلِّ أخي مدحِ ثوابٌ علمته ... وليس لمدح الباهلي ثوابُ
أي جزاء.
وزَعْمُ أنَّ الثواب يختصُّ بجزاء الخير بالخير غيرُ صحيح، بل يطلق الثواب أيضًا على جزاء الشرِّ بالشرِّ في اللغة، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ الآية [المائدة/ ٦٠]، وقوله تعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾ [المطففين: ٣٦].
والعقابُ في اللفة التنكيل على المعصية. ومنه قولُ النابغة الذبياني:
ومن عصاكَ فعاقِبْهُ معاقبةً ... تنهى الظلومَ ولا تقعد على ضَمَدِ
المباح
قال المؤلف (^١) ﵀:
_________
(^١) (١/ ١٩٤).
1 / 21
(القسمُ الثالث: المباح. وحدُّه: ما أذن اللَّه في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه، وهو من الشرع. . .) الخ كلامه.
اعلم أن الإباحة عند أهل الأصول قسمان:
١ - الأولى: إباحةٌ شرعية، أي عُرِفَتْ من قِبَل الشرع، كإباحة الجماع في ليالي رمضان المنصوص عليها بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة/ ١٨٧]، وتسمى هذه الإباحة: الإباحة الشرعية.
٢ - الثانية: إباحةٌ عقلية، وهي تسمى في الاصطلاح: البراءة الأصلية، والإباحة العقلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصليِّ حتى يرد دليل ناقل عنه.
ومن فوائد الفرق بين الإباحتين المذكورتين أن رفع الإباحة الشرعية يُسمَّى نسخًا، كرفع إباحة الفطر في رمضان، وجعل الإطعام بدلًا عن الصوم المنصوص في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة/ ١٨٤]، فإنه منسوخ بقوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة/ ١٨٥].
وأما الإباحةُ العقليةُ فليس رفعُها نسخًا؛ لأنَّها ليست حكمًا شرعيًّا، بل عقليًّا، ولذا لم يكن تحريم الربا ناسخًا لإباحته في أول الإسلام؛ لأنها إباحةٌ عقلية، وأمثال ذلك كثيرة جدَّا.
والمباح في اللغة: هو ما ليس دونه مانع يمنعه. ومنه قولُ عبيد بن الأبرص:
1 / 22
ولقد أبحنا ما حَمَيْت ... ولا مبيح لما حَمَيْنَا
تنبيه:
قد دلَّت آيات من كتاب اللَّه على أنَّ استصحاب العدم الأصلي حجةٌ على عدم المؤاخذة بالفعل حتى يَرِدَ دليلٌ ناقل عن العدم الأصلي.
من ذلك أنهم كانوا يتعاملون بالربا، فلمَّا نزل تحريم الربا خافوا من أكل الأموال الحاصلة منه بأيديهم قبل تحريم الربا، فأنزل اللَّه في ذلك: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة/ ٢٧٥]، فقوله تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ يدلُّ على أن ما تعاملوا به من الرِّبا على حكم البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا مؤاخدة عليهم به.
ونظير ذلك قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء/ ٢٢]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء/ ٢٣]، فإنَّ قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الموضعين استثناء منقطع، أي لكن ما سلف قبل التحريم على حكم البراءة الأصلية، فهو عفو.
ونظائر هذا في القرآن الكريم كثيرة، ومن أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة/ ١١٥] فإنهم لمَّا استغفروا لموتاهم المشركين، فنزل قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة/ ١١٣] ندموا على استغفارهم للمشركين،
1 / 23