فقال لي: انهض واقفا، فسألته أمام من؟ فقال: أمام القانون. فأجبته: إنني لا أعرف هذا القانون. فسألني: ما هي مهنتك؟ فقلت: هل أعطيتني مهنة حتى تسألني عنها. فقال: ما هو اسمك؟ فقلت: ليس لي اسم. قال: بماذا تؤمن. قلت: بماذا تريدون أن أؤمن؟ فإنني قلت لكم أنني لست منكم فلم تصدقوني. فسألني: أتؤمن بالله؟ فقلت: أي إله. فسألني: كيف تسأل أي إله! فإنه لا يوجد غير إله واحد. فقلت له: أين هو؟ وهل تعرفه؟ أرني إياه لأصدقك. فأجاب: في السماء. فقلت: هل صعدت إلى السماء ونظرته. فأجاب: كلا. فقلت: من أدراك إذن أنه في السماء؟ فالتفت القاضي إلي ساخطا، وقال: اترك هذا البحث الآن. فقلت له: اترك أنت هذا السؤال أيضا.
ثم سألني: ما هو وطنك؟ فقلت: ليس لي وطن. فقال: ولكنك تعترف بالقيصر. قلت: أي قيصر؟ فقال: إسكندر الثاني. قلت: القيصر هو القيصر، وأنا أنا لا يهمني أمره كما لا يهمه أمري. فقال: ولكنك ستدفع ضريبة النفوس (يعني الضريبة الموضوعة على كل نفس). فقلت: هل أنتم الذين أعطيتموني نفسي لأدفع ضريبة عنها؟ فقال: وستدفع الرسوم أيضا. فقلت: إنني لا أدفع شيئا. قال: ولكن جميع الناس يدفعونها. فقلت: إذا كان جميع الناس يدفعون وجب أن لا يدفعوا؛ لأنه لا يعود يوجد من يقبض. فقال لي: يوجد القيصر. فقلت: القيصر هو القيصر، وأنا أنا فلا يهمني أمره كما لا يهمه أمري.
وبعد سجنهم إياي تسعة شهور حاكموني لدى محكمة، فقال لي القاضي: انزع قبعتك. فسألت: لماذا؟ قال: لأن المحكمة مجتمعة. فقلت: المحكمة محكمتكم وأنا ملك نفسي. فقال: يجب أن تنزعها. فسألته: أمام من؟ فقال: أمام المحكمة. فقلت: إنني لا أعرف المحكمة ولذلك لا أكشف لها رأسي احتراما. فتقدم مني رجل ونزع القبعة عن رأسي بالرغم عني، فجلست حينئذ على الأرض غير مبال بهم.
فقال لي الرئيس: أيها المتهم انهض. قلت: أنا لست متهما. فقال: تفضل وانهض احتراما للقانون. فقلت: إن القانون لم يوضع من أجلي، ولكن من أجل الأشقياء، وإذا كنتم أنتم خاضعين للقانون فإنكم لا تستحقون أن تكونوا قضاة لي.
فقال القاضي: أتعترف بذنبك؟ فأجبته: وأنت تعترف بذنبك؟ قال: أي ذنب؟ فقلت: وأنا أي ذنب؟ قال: ذنبك عصيت المحكمة ورفضت نزع قبعتك. فقلت له حينئذ: إذا كنت لم أنزع قبعتي فذلك لأنني حريص على صحتي. فإنكم هنا تدخنون، وتبصقون على الأرض؛ فالبصاق يمتزج بالتراب، ثم يجف، ويتطاير في هواء الغرفة، ويقع على الرءوس، فإذا كان رأسي مكشوفا وصل الغبار إليه، ثم دخل إلى الدماغ، وأحدث فيه اضطرابا، ولذلك ترون عقولكم أنتم الجالسون ههنا كلها مضطربة، ولماذا تعذبونني؟ إنني لم أؤذ قط أحدا، ولم أضر أحدا، ولم أسرق ولم أقتل، ومع ذلك فإنكم أودعتموني السجن مع القتلة واللصوص، أليس هذا دليلا على أن عقولكم مضطربة.
فقرع الرئيس حينئذ الجرس ودخلوا للمذاكرة، ثم خرجوا، وأصدروا الحكم، ونصه: «برئت ساحة المتهم، ولكن يجب أن يدخل إلى مستشفى قزان لفحص قواه العقلية.»
فلما دخلت إلى المستشفى المذكور جاءني طبيبه قائلا: لقد كتبوا إلي أنك لا تؤمن بالله، فهل ذلك صحيح؟ فقلت له: وأين الله؟ فقال في كل مكان. قلت: لا تقل في كل مكان، فإنه لو كان في كل مكان لكان ساكنا في الذين يقتلون والذين يضطهدون. فسألني: أين هو إذن؟ فأجبت: إنه ساكن في الضمير الصحيح والعقل السليم؛ لأن العقل والضمير لا يشتركان في القتل والآثام. فقال الطبيب: اسمع يا لابسف إنني لا أريد لك إلا كل خير، ولكنهم كتبوا لي أنك فرد مؤذ مضر من أفراد الهيئة الاجتماعية. فقلت له: إذا كنت مؤذيا ومضرا فأرسلني إلى مكاني الحقيقي. فقال: أين مكانك الحقيقي؟ قلت: حيث لا يكون لكم ولشرائعكم من أثر. فقال: لا أقدر على ذلك؛ لأني لا أعرف في العالم مكانا خاليا من الشرائع والسلطة. فأجبته: فهل الذنب ذنبي إذا كنتم قد جعلتم أنفسكم على مثال الآلهة فاستوليتم على الأراضي والشعوب لتتصرفوا فيها تصرفكم بأملاككم الخصوصية؟ إن الصانع يستبد بمصنوعاته فيكسرها ويلقيها دون أن يسأله أحد عنها لأن ذلك من حقه، فهل إن الشعوب ملك لكم حتى تصنعوا بها كذلك؟
فقال الطبيب: لا تنطق بهذا الكلام يا لابسف فإن الإنسان أصبح اليوم حرا وهو سيد نفسه. فقلت: نعم، هو سيد نفسه على الورق فقط وفي بطون الكتب، أما في الحقيقة فهو ليس سيدا، وإذا كان كل واحد سيدا لنفسه فلماذا تعذبونني؟ هل للسيد أن يعذب السيد؟ إنكم فرقتم بيني وبين رفيقتي التي كنت أعيش معها بلا موجب لذلك، أنتم تفرقون بين الرجال ونسائهم ثم ترسلونهم إلى الجندية للقتل والذبح، وبذلك تنشرون فساد الأخلاق بين البشر؛ لأن الرجل والمرأة حينئذ يرتكبان الخطيئة وأنتم السبب في ذلك. لماذا فرقتم بيني وبين امرأتي وسجنتموني ههنا تطعمونني وتسقونني كأنني خنزير يعلف ليسمن؟ أنا لست خنزيرا، ولا أحب أن آكل خبز غيري في البطالة والكسل؛ لأنني قوي الجسم قادر على كسب خبزي دون أن أسفك الدم المسيحي كما تصنعون. إن الرجل الذي يأكل خبز غيره من غير بذل عرق جبينه يكون خبزه مغموسا بالدم، فكأنه كان قاتلا. فأنا لا أريد أن أكون قاتلا. أنا لا أريد أن آكل خبزا دمويا. فلماذا لا تتركوني أعمل لآكل خبزي بعرق جبيني؟ لماذا تلزمونني بهذه الخطيئة؟
فقال الطبيب: اترك هذه التخرصات يا لابسف. قلت: ما هذا الكلام بتخرص، ولكنه كلام ذي عقل سليم. إن الله لا يكره الإنسان على الخير ولا على الشر، وأما أنتم فتكرهونني على كل شر. فقال: على أي شيء أكرهناك؟ قلت: تكرهونني على أن أنزع قبعتي عن رأسي، وأجثو أمامكم لأعبدكم، ولا يوجد إلا إبليس الذي يطلب أن يعبدوه، أنا لا أريد أن أجثوا أمام أحد، ولم يطلب أحد من خدمة الله أن يجثو الناس أمامهم، بل قد حرموا ذلك؛ لأن العبادة حرام إلا لله، ومع ذلك فعبادة الله تكون بالروح لا بالجسد؛ لأن الله روح هو. من أجل هذا أرى من التجديف والكفر بنعمة الله أن يجثو مخلوق أمام مخلوق، وبما أنني كرهت أن أجثو أمام الناس قبضوا علي وسجنونني، فجاء سجني طبقا لقول يوحنا: سيأتي زمن يضعكم فيه إبليس في السجن ليجربكم، فإبليس هو الذي أودعني السجن.
ثم أقمت في هذا المستشفى ستة أسابيع، وبعد ذلك أرسلوني لأقيم في قرية كوفانتزا التابعة لإقليم أرزاماس من ولاية نيجني نوفوكورود.
Bilinmeyen sayfa