خاتمة الكتاب
رد مطول لحضرة العلامة الشهير واللاهوتي الفاضل الكاهن قسطنطين إجييف، أستاذ التعليم المسيحي في كلية الإمبراطور نقولا الأول للإناث في مدينة كييف، وقد وجه كلامه فيه لأدباء الهيئة الاجتماعية ونخبة كتاب الروس الأفاضل، حيث قال:
من الغريب أن أفاضل ونبلاء هيئتنا الاجتماعية أبدوا استياء شديدا من رسالة المجمع المقدس التي أصدرها في حق تعاليم تولستوي، واتخذوها واسطة لإظهار تعلقهم به وحبهم الشديد له، فقد صاغوا على أثر صدورها من مبتكرات قرائحهم تلغرافا يشف عن رقة زائدة ومحبة أكيدة وميل شديد لفيلسوف روسيا العظيم، أرسلوه له في 28 فبراير «شباط» عام 1901، وكان يجب أن تترك تلك المظاهرات حتى ينسج عليها الإهمال نسيج النسيان، غير أننا سمعنا كثيرين يرددون عبارات الأسف لصدور مثل ذلك عن أشخاص مختلفي المشارب، وهم من الأهمية بمكان عظيم، وفي الوقت ذاته يدعون بأنهم أبناء مخلصون للكنيسة الأرثوذكسية.
نعم، إنه لا يخفى علينا أساس مصدر تلك المظاهرات التي ولا شك هي تلك الجريدة التي أعلنت حرمان المجمع المقدس، وأحدثت ذلك التأثير السيئ الذي أصاب فؤادنا من سهم حاد؛ لأننا لا ننكر فضل الكونت تولستوي مؤلف الصبوة، والفتوة، والحرب والسلام، وحنه كارينينا ... وغيرها من الكتب السامية المغزى. أفلعلنا نسينا تلك اللذة العذبة التي كنا نشعر بها عند مطالعتنا تلك المؤلفات التي رسم بها الفيلسوف مضار الهيئة الاجتماعية، وأبان ما فيها من أنواع الفساد الحيواني؟ ثم هل نسينا بأننا مديونون للفيلسوف بإيضاحه كثيرا من الحقائق الصادقة المهمة، ولم تزل ترن في آذاننا للآن كلماته القائلة: «لا توجد عظمة حيث لا توجد بساطة وصلاح وصدق»؟!
ولقد تألم فؤادي من قراءة شهادة جميع الكهنة الروس الذين نسبوا إلى الفيلسوف قلة الإدراك وفساد المعارف، وكان من الواجب عليهم أن يجعلوا مدار كتاباتهم ومحور ردهم على أقوال الفيلسوف الدينية ليس إلا.
ولذلك فلا تحزنن قلوب المؤمنين الروس الذين يكرمون ويحترمون فيلسوفهم العظيم الذي طارت شهرته في سائر أقطار المعمور عند مطالعتهم حكم المجمع المقدس ضده، فإن من له أقل إلمام بالتاريخ يعرف أنه في كل زمان ومكان كانت الحرب عوانا بين الدين والعلم، وتلك سنة لا يمكن تغييرها ما دام العلم علما والدين دينا، وهما على طرفي نقيض؛ فالإنسان يستطيع حسب استعداده أن يكون نابغة عصره في العلوم وسعة المدارك، ويمكنه أن يكون أيضا كريم الأخلاق حميد السجايا، ومع ذلك يكون خارجا عن دائرة الكنيسة، وخروجه هذا لا يحط بقدر معارفه وعلومه، ولا يعيب صفاته النبيلة، ومن جهة أخرى فالإيمان لا ينبغي له معارف زائدة؛ لأنه لا يتوقف على البراهين الساطعة والأفعال المجيدة، بل يتوقف على بناء الإنسان الروحي مع مادة الإيمان، وهو لا ريب نتيجة عمل مجموع قوى الإنسان في أشد حالات ظهورها، ولذا ينبغي للإيمان أيضا اتفاق جميع أوتار النفس حتى تضرب على وتر واحد، والإيمان هو فعل الروح الحر؛ أعني اقتناع القلب وتصديقه بالأشياء المنظورة كالمنظورة والمرغوبة المنتظرة كالحاضرة، ولا يحوزه الإنسان إلا بدقة التبصر حتى يسلم به العقل السليم والفؤاد الطاهر الكريم. فيحتمل أيضا أن يكون الإنسان عالما مشهورا في علم من العلوم، ولكنه فاقد التبصر ودقة النظر، فيحصر اجتهاده لنشر النواميس التي يسنها في هذا العالم، فإنسان مثل هذا لا يستطيع أن يجد الله، ولا يمكنه أن يتبع شرائعه، ولا يكون ابنا حقيقيا للكنيسة مثل لابلاس.
كما أنه يوجد أناس كثيرون متصفون بالإخلاص، واللطف، وطهارة القلب، ولكنهم يفتخرون بذواتهم، ويتكلون على نفوسهم، وذلك مما يقودهم إلى الحرية المتطرفة، فيصير من الصعب عليهم إمالة أسماعهم لطاعة الإيمان بالنظر لاعتقادهم بأن الطاعة ما هي إلا استعباد النفس، ومن هذا الوجه فهم يفضلون ترك الافتكار والاهتمام بالعالم الثاني على الخضوع للقوانين التي تفرضها الكنيسة، ومثل هؤلاء ليسوا بعيدين عن ملكوت الله، ولكنهم أيضا ليسوا فيه، والكنيسة في مثل هذه الحالة تستعمل وسائل ناجعة لقيادتهم إليها، فيتعدون الحد الذي يفصلهم عن الكنيسة، فيصبحون إذ ذاك أبناء مخلصين لها، فيجدون في ربوعها راحة نفوسهم المضطربة.
ومن هذا القبيل كان الإيمان في كل زمان ومكان سببا لوجود الأحزان في الكنيسة، والتاريخ يصرح بكل وضوح بأن العلماء والفلاسفة كانوا ولم يزالوا يبتعدون عن الديانة المسيحية، ويحملون عليها حملات شديدة، فاليونان الذين كانوا حائزين درجة عظمى من التقدم في العلوم والمعارف لم تسبقهم إليه أمة، حسبوا ذلك الدين جهالة عظمى حسب قول الرسول، وبهذا المعنى قال السيد - له المجد - بأن أتباعه سينقصون رويدا رويدا، حتى إنه لدى مجيئه الثاني لا يجد الإيمان على الأرض.
1
عندما تمت حياة مخلصنا الفادي على الأرض، ودنا ذلك اليوم الذي أتم به خدمته الخلاصية للجنس البشري، كان قد أخبر تلاميذه الذين اختارهم لإتمام عمل الكرازة بالآلام التي سيحتملها، ثم كشف لهم مشيئته الأخيرة التي ينبغي على المؤمنين أن يسيروا بموجبها فقال: أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الكرام، اثبتوا في وأنا فيكم، كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضا إن لم تثبتوا في. أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير؛ لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا «يو ص15 عدد 1 و4 و5».
Bilinmeyen sayfa