ليس في المعرفة عند أصحاب الإحساس بالقيم ما يستحق التقدير إلا دسامتها، وإن يكن من الواضح أن لها كذلك أهمية عملية. المعرفة تمكننا من صنع السيارات وإصلاح السيقان. وإنما يميز الشعوب المتمدنة أولا أنها قادرة على أن تدرك قيمة المعرفة كوسيلة لبلوغ حالات نفسية رائعة، وأنها تقدر هذه القيمة ثانيا قدرا يفوق أية فائدة بعيدة نفعية أخرى. والجمال بطبيعة الحال ليست له البتة قيمة عملية، والصورة الحسنة قد تحث على سلوك نافع، ولكن الصورة السيئة كذلك - بل وأكثر من ذلك - تؤدي إلى نفس هذه النتيجة . ومن علامات الرجل الهمجي - أو السوقي - أنه لا يملك الإحساس بالقيم، ولا يستطيع أن يميز بين الغايات والوسائل، وبين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة، فهو لذلك يريد أن يعرف ما للفن والتأمل والعلم البحت من فائدة، فإن أجبته أنها وسائل مباشرة - أو تكاد أن تكون كذلك - لحالات وجدانية لها أكبر القيمة وأعمق الغور لأسباب واضحة جلية، لم تقنعه ولم تبعث في نفسه رضا، ما لم تقل له إنها المفاتيح التي يفتح بها أبواب الجنة، وما لم تستطع بطريقة ما أن تقدم له ثمار الفردوس، وكيف تستطيع أن تقدم له هذه الثمار؟ إن ذلك لا يكون - فيما أحسب - إلا بتمكينه من مشاهدة الفردوس، وأؤكد لكم أنني لا أعرف كيف تستطيع أن تمكنه من هذه المشاهدة، بيد أني أتصور أن هذا ما ينبغي أن تقوم به التربية إذا استطاع المعلمون بطريقة ما أن يجعلوا البنين والبنات العاديين يدركون هذه الحقيقة البسيطة، وهي أن الدنيا ربما لا تقدم له (أو لها) شيئا أفضل من المال اليسير والعمل الكثير، إلا أن كلا منهم يستطيع إن أراد أن يحيا حياة مليئة بالملذات المستساغة إذا استطاع المعلمون أن يجعلوهم يدركون أن المتعة التي يظفر بها المرء وهو وحيد في غرفة متواضعة، هي غرفة نومه وغرفة جلوسه في آن واحد، بعقل متنبه مدرب مزود بالمعرفة ومعه كتاب أكبر من متعته بامتلاك اليخوت وجياد السباق، وأن النشوة التي يحسها من صورة عظيمة أو رباعية من رباعيات موزار أشد من نشوته من الجرعة الأولى من زجاجة الشمبانيا (وأن يصدر ذلك عن ذواقة مخلص). إذا استطاع المعلمون هذا، لحلوا - فيما أظن - عقدة المشكلة الإنسانية. أنا لا أستطيع أن أحل هذه العقدة، ولا أستطيع إلا القول بأن الشعب الوحيد الذي يملك مفتاح قصر الملذات هذا هو الشعب الذي يعرف كيف يقدر الفن والفكر لذاتهما والمعرفة كأداة للثقافة.
إن السوقة يعيبون على الإغريق في بحثهم وراء الحقيقة خلوهم من الغرض. لقد دفع الإغريق التأمل الرياضي ودراسة الهندسة إلى حد لا يزال يدهش له أولئك الذين يقدرون على قياس الأرض المحسوسة، وهم أساتذتنا في التفكير الميتافيزيقي والخلقي والسياسي؛ في حين أنهم بلغوا في النظريات الميكانيكية حدا مكنهم من أن يخرجوا بطريقة غير مباشرة نموذجا للآلة البخارية، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة استغلال هذا الاختراع، مما أذهل العصور التالية. إنهم لم يصنعوا إطلاقا قاطرة، أو بارودا، أو حتى دولابا للغزل. إنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة لذاتها، وبوصفها وسيلة للثقافة لا وسيلة للسلطان والراحة، وأهم من ذلك أنهم كانوا يزدرون أولئك الذين يبحثون عنها لفائدة مادية أو لكسب شخصي، لاعتقادهم أن هذه البواعث الدنيئة أحط من كرامة الأحرار ولا تتفق والحياة المهذبة، بل ربما أدهش بعض العلماء أن يعرفوا أن الأثينيين كانوا يحسبون الاشتغال بالتجارة مخلا بالشرف، ومع ذلك فإن أفلاطون وأرسطو كليهما يؤكدان ذلك. كان الأثيني يؤثر أن يحيا حياة غنية على أن يكون غنيا، ومن أجل هذا نعد الأثينيين أرقى الشعوب حضارة في التاريخ.
كان يمر بخاطر الأثينيين أحيانا أن الشيء الجميل يحتاج إلى مبرر آخر غير جماله، وربما يرجع السبب في ذلك أولا إلى أنه قل من الأفكار ما لم يخطر للعقل الأثيني.
أما الإيطاليون لعهد النهضة، فكانوا أقل من الأثينيين تفكيرا في الأمر، بيد أنه ينبغي لنا أن نعترف أن الفرنسيين في أخريات القرن الثامن عشر أساءوا استخدام فن التصوير بغير خجل. فكانت صور جروز مثلا توصف دون حياء لإنهاض الروح المعنوية، فهي تنبه الحس، وتثير الشفقة، وترتب على ذلك أنك تجد حتى اليوم بعض ذوي الأذواق ممن لا يستطيع أن يدرك أي مصور بارع كان جروز حقا. إن القرن الثامن عشر - كما قررت آنفا - كان أصح موقفا فيما يتعلق بالحق منه فيما يتعلق بالجمال، كما كانت النهضة أصح موقفا فيما يتعلق بالجمال منها فيما يتعلق بالحق، ومع هذا فإن تقدير النهضة للدراسة الخالصة التي لا تهدف إلى غرض كان تقديرا صادقا، وقد جعل ذلك براوننج حقيقة مسلما بها في شعره الخيالي الذي قال فيه:
هذا الرجل الوضيع يبحث عن عمل قليل يؤديه
فيلقاه وينهيه
وهذا الرجل الرفيع، يتابع أمرا جليلا
فيموت قبل إدراكه
هذا الرجل الوضيع يجمع واحدا إلى واحد
فسرعان ما يبلغ المائة
Bilinmeyen sayfa