Makul ve Makul Olmayan
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Türler
ولعل «العلاف» وهو في صدد هذا الجزء من معالجته لمشكلة الإرادة متى تكون حرة ومتى تكون مقيدة، استدرك أمرا فاته، وهو الذي جعله مسألة خامسة؛ إذ كأنما أفاق ليسأل نفسه قائلا: وهل تكون في الحياة الآخرة «حركة» على الإطلاق، حتى نقول عنها إنها حرة أو مجبرة؟ أليس الصواب المعقول هو أن تنقطع الحركة بانقطاع الحياة الدنيوية المادية الطبيعية، لتصير الكائنات في آخرتهم إلى «سكون» دائم؟ وبرهان ذلك قريب؛ فكل ما ليس له أول لا يكون له آخر، وأما ما يتناهى إلى أول يبدأ عنده الظهور والحدوث، فهو أيضا يتناهى إلى آخر يختفي عنده وتبطل حوادثه، فإذا كانت «الحركة» ذات أول بدأت به، فلا بد أن يكون لها آخر تقف عنده.
فكأنما الأساس عنده هو «السكون» تطرأ عليه الحركة ثم تزول عنه، ولا يسعنا في هذا السياق إلا أن نقارن مقارنة عابرة سريعة بين ثقافتين؛ الأولى - وهي التي سادت خلال القرون الماضية - تجعل «الحركة» فرعا و«السكون» أصلا، أي إننا إزاء الحالة السكونية لا نسأل: من الذي أحدث هذا السكون؟ وأما إزاء الشيء المتحرك، فيجوز لنا السؤال: من الذي بث فيه الحركة؟ وأما الثانية - وهي ثقافة عصرنا نحن - فتعكس الوضع؛ فالحركة أصل أصيل لا يستدعي السؤال عن علة، والسكون فرع يطرأ، فنسأل عندئذ: من الذي أوقف الحركة؟ وإنه لفرق بعيد عميق بين الوقفتين؛ في الوقفة الأولى نرى الناس يلتمسون عوامل التسكين والتثبيت؛ فمن تجميد للأوضاع وكراهية تغييرها، إلى قوانين عرفية وتقاليد تنهض كالأطواد الرواسخ في أوجه من أرادوا تحريكا وتغييرا وتطويرا، وعكس ذلك هو الصحيح بالنسبة إلى عصرنا الراهن.
وننتقل إلى المسألة السادسة عند «العلاف» وفيها تفرقة لطيفة بين ما تهفو إلى فعله بقلبك، فتطاوعك جوارحك في تنفيذه أو لا تطاوعك لعلة فيها، وبين ما تتحرك جوارحك في فعله غير صادرة في ذلك عن توجيه من القلب؛ ففي الحالة الأولى يكون الجانب الجوهري الهام قد تحقق لمجرد أن تعلق به الهوى، وأما قدرة الجوارح على التنفيذ الفعلي فأمر عرضي ثانوي، والعكس في هذا غير صحيح، أي إن الجوارح قد ترغم إرغاما على فعل لا يهواه القلب، وعندئذ يكون أقرب إلى حركات الجوامد. الفاعلية الإنسانية الحق تتوافر للحالة الأولى، وأما في الحالة الثانية فالذي يتحكم في الأمر هو الطبيعة وقوانينها، وهل ترى في إنسان يسقط من شاهق شيئا أكثر من حجر يسقط بفعل قانون الجاذبية؟ فالإنسان إنسان بخوالجه ونواياه وميوله، لا بما تؤديه جوارحه أداء آليا لا دخل له هو فيه، الجوارح بالنسبة إلى القلوب أدوات للتنفيذ، فإن أدت فعلها كان خيرا، وإلا فقد فرغ الإنسان من تبعته إذا ما صحت عزيمة قلبه؛ شيء كهذا هو ما أراد «العلاف» أن يقوله، إذا كنت قد أحسنت فهمه، وهو موقف لا أظننا نفيد منه كثيرا لو أحييناه في عصرنا، وأقل ما نعلق به على ذلك تعليقا عابرا، هو أن «الفرد» في عصرنا قد جاوز جدران فرديته لتربطه الأواصر العضوية بجماعة ينتمي إليها، أريد أن أقول: إن مفهوم «الفردية» قد تغير، وأصبح الفرد بلا وجود حقيقي وإنساني ما لم يكتمل بسواه، فإذا هو قد اختزن نواياه في قلبه، لم تخرجها له الجوارح أفعالا تصب في الوعاء الاجتماعي المشترك، فماذا تكون جدواه؟ بل على أي وجه يجوز القول عنه إنه موجود؟ قد تقول لي: لكنك تتحدث من زاوية علاقة الإنسان بالإنسان، على حين كان «العلاف» - وكل الأقدمين - إنما يتكلمون من زاوية علاقة الإنسان بربه، فأجيب: نعم، إني أعلم ذلك؛ ولهذا قلت إن للعلاف ومعاصريه زمانهم، ولنا نحن زماننا.
وكانت المسألة السابعة عند «العلاف» هي عن وجوب أن «يعرف» الإنسان ربه معرفة قائمة على العقل وأدلته؛ لأن ذلك وحده ما يستلزم أن يعلم ما يجوز فعله وما لا يجوز علما لا يتوقف على مجرد الرواية المسموعة، فإذا لم يحصل الإنسان مثل هذه المعرفة كان مسئولا عن جهله، وهو موقف شبيه بقولنا اليوم إن جهل المواطنين بالقانون لا يعذرهم في ساحات القضاء، فالعلم هو الحالة المفروض قيامها، ومعنى قول «العلاف» في هذا الصدد، هو أن الإنسان إذ يسلك السلوك الفاضل، فإنما يتبع في ذلك إملاء عقله قبل أن يتبع تكليفا مفروضا عليه، برغم كون التكليف وإملاء العقل شيئا واحدا نعرفه عن أحد الطريقين أو عن الطريقين معا.
والمسألة الثامنة عند «العلاف» هي قوله في الآجال بأنها لا تزيد ولا تنقص، وأحسب أن قائل هذا القول لو كان صادقا مع نفسه فيه، لما أخذ الحذر من المهلكات، ولست أدري كيف يمكن التوفيق بين أن يكون الأجل غير قابل لزيادة أو نقصان وبين الأمر بألا ألقي بنفسي إلى التهلكة، ويخيل إلي أنه لو كان هذا القول مقصودا بمعناه الظاهر في لفظه لما كانت هنالك حكمة في بحوث طبية نجريها؛ لنجنب الإنسان بعض المواقف التي من شأنها أن تجلب الموت لو تركت لتفعل فعلها بغير وقاية قائمة على علم، لكن هذا استطراد منا قد لا يكون واردا في موضع مناسب من سياق الحديث.
ومسألته التاسعة خاصة بالإرادة الإلهية أتكون هي نفسها ما يتعلق بها من الأشياء، بمعنى ألا يكون ثمة فاصل يفصل الإرادة عن الشيء المراد، أم يكون لها كيانها المنفصل المستقل غير المرتبط بعملية معينة من عمليات الخلق التي ترتبط بها وتترتب عليها؟ عن ذلك يجيب «العلاف» بأن إرادة الله لخلق يخلقه هي نفسها خلقه له، لكن خلقه للشيء ليس هو الشيء نفسه؛ إذ الخلق عند الله أمر مطلق لا يتحيز في مكان معين، على خلاف الشيء المخلوق، فهو مجسد متعين ذو مكان وزمان معلومين محدودين. وكاتب هذه الصفحات لا يتصور كيف تكون «إرادة» قائمة برأسها غير موصولة بما يراد؟ إن ذلك كقولنا: رؤية بغير شيء تراه، وسمع بغير صوت تسمعه، فمهما علونا بفكرة «الإرادة» من المتعين إلى المجرد ومن النسبي إلى المطلق، فسوف تظل الفكرة مبتورة مستعصية على الفهم حتى نتصور الصلة الرابطة بينها وبين ما تستحدثه وتخلقه، وإلا فلو أصررنا على أن يكون التجريد والإطلاق على درجة من الانفصال عن الخلق الفعلي المنصب على مخلوقات بأعينها، بحيث نطالب بأن نتصور إرادة لا تريد وخلقا لا يخلق، ورؤية لا ترى وسمعا لا يسمع، ومشيا لا يمشي، وقولا لا يقول ... وهكذا، كنا نردد «ألفاظا» لا تسمى لا أفكارا ولا أشياء، كأنها الأصابع التي تشير إلى خلاء، ومع ذلك، فما الذي نفيده من زعمنا بأن لله تعالى إرادة منفصلة عما يراد، أعني أن له إرادة لا تريد بالضرورة، إلا حين «يريد» لها أن تريد؟
وأما المسألة العاشرة والأخيرة من المسائل التي يذكرها صاحب «الملل والنحل» ليميز «العلاف» بها دون سائر المعتزلة، فهي مسألة منهجية؛ إذ يشترط «العلاف» للحجة المقامة على صدق زعم يزعمه لنا زاعم، أن تستند لا إلى رأي تواتر بين الرواة مهما كثر عددهم، بل إلى ولي من أولياء الله المعصومين عن الخطأ، أو بعبارة أخرى، لا تكون الحجة المقامة على حكم مقبولة إلا إذا كانت بدورها إلهاما من الله تعالى يخص به رجالا بأشخاصهم. ويخيل إلي أن هذه القاعدة المنهجية وحدها كفيلة بهدم البنيان العقلي الذي كان «العلاف» يحاول إقامته بالطريقة التي ناقش بها المسائل المشكلة؛ إذ فيم العقل ومنطقه إذا كان التصديق آخر الأمر مرهونا بوحي يوحى به إلى ولي معصوم؟
أما بعد، فقد أطلت الوقوف مع «شيخ المعتزلة» أبي الهذيل العلاف؛ لعلي أعود منه بزاد عقلي أقدمه لأبناء عصري، يدخلونه في زادهم الفكري، فيكونون به وارثين لسلف عظيم، لكني أخدع نفسي وأخدع أبناء عصري، لو توهمت وأوهمتهم أن في الموروث عن «العلاف» إرثا ذا بال ينفع من أحاطت به مشكلات عصرنا، اللهم إلا إذا اجتزأنا نتفا من هنا ومن هناك، من أهمها الإيمان بقدرة الإنسان على الاختيار الحر المسئول؛ إذ نحن أحوج ما نكون إلى بث هذا الإيمان في أنفس المعاصرين، ليفعلوا ويفعلوا، أفعالا تتسم بالنشاط المبتكر الخلاق، لا يحد من نشاطهم المغامر خوف من تبعة، فإنسانية الإنسان مرهونة بإرادة الاختيار في خلقه الأفعال والأشياء خلقا يتصدى به الإنسان الحر لكل ما يترتب على ذلك من تبعات.
24
وهل نترك البصرة لنعود إلى بغداد فنستأنف السير على طريقنا المرسوم، قبل أن نمر على معتزلي آخر، لصيق ب«العلاف» من وجوه كثيرة؛ فهو من ذوي قرباه الأقربين، ثم هو من تلاميذه المقربين، وذلك هو «إبراهيم بن سيار النظام»، ويبدو أن التلميذ تفوق على أستاذه تفوقا ظاهرا، لم يخطئه المعاصرون لهما، وهذا هو الجاحظ - وقد عاصرهما في البصرة قبل أن ينتقل إلى بغداد - يقول عن «النظام»: «كان الأوائل يقولون: في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا فهو النظام» (والقول مأخوذ من رواية المرتضى في «المنية والأمل»، ص29).
Bilinmeyen sayfa