Makul ve Makul Olmayan
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Türler
17
ما زلنا من طريق سيرنا عند «المحطة» الثانية، التي اخترنا الوقوف عندها؛ لنطل على الحركة العقلية في البصرة إبان الفترة التي هي الآن موضع حديثنا، وأعني القرن الثامن الميلادي، ولقد فرغنا لتونا من متابعة أصحاب المذاهب العقلية من فريق المعتزلة، ماذا اعترضهم عندئذ من مشكلات نبتت لهم من صميم حياتهم اليومية الجارية، وها نحن أولاء نتجه بأبصارنا إلى صنف آخر من الرجال، كان له نصيب موفور في إقامة الحياة العقلية العلمية من تراثنا الفكري، وأعني بهم رجال اللغة والنحو.
ولست أنا الكاتب الذي يستطيع أن يحدث القراء بشيء من التفصيل المفيد عن هذه الحركة في دراسة اللغة ونحوها وصرفها، لكنني أترك حقلا عجيبا في دقته العقلية، غزيرا في خصوبته وثماره، إذا أنا تركت حقل الدراسات اللغوية وما يدور حولها من أبحاث كادت تبلغ مبلغ الدقة الرياضية في دقة التحليل وفي سلامة الاستدلال، وأول ما نلاحظه في هذا الصدد، هو الصلة الحميمة الوثيقة بين بحوث الباحثين وبين حياة الناس العملية، حتى في مثل هذا المجال اللغوي، الذي قد يبدو لعين القارئ العربي اليوم وكأنه مبتور الصلة عن تلك الحياة؛ جريا منه على ما قد ألفه في عصره هذا من بعد الشقة في كثير جدا من الحالات بين رجال اللغة من جهة، وضروب النشاط العملي من ناحية أخرى، حتى لقد سار فينا سريان الأمثال أن يكون رجل اللغة العربية ونحوها ومعاجمها ومصادرها وتصاريفها، رجلا غريبا على مسرح الحياة اليومية، لا تسيغ سمعه الآذان، إذا حرص على ضبط اللغة مقروءة أو مكتوبة.
لا، لم يكن رجال البحث اللغوي إبان الفترة التي نتحدث عنها مبتوري الصلات عن مجرى الحياة العملية ومشكلاتها، ومن ثم كانت منزلتهم العليا من الناس، فلقد كانت المشكلات الدينية عندئذ - والدين الإسلامي في أولى مراحل تطبيقه على دنيا العمل والنشاط - هي ما يستوقف الأنظار ويسترعي الانتباه ويثير السؤال، وقد رأينا فيما أسلفناه من حديث كيف تمخض القتال في «الجمل» وفي «صفين» عن سؤال ضخم خاص بالذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكم في أصحابها؟ ليعلم الناس مصير من تقع عليه التبعة في سفك الدماء في تينك الموقعتين، وواضح أنه لم يكن بد أمام من أراد محاولة الجواب من الرجوع إلى الكتاب الكريم؛ ليهتدي بهديه في مواجهة ذلك السؤال؛ فما هي بعد ذلك إلا خطوة جد قصيرة عند مراجعة المفكرين لكتابهم ابتغاء الهداية، حتى يجدوا أنفسهم مضطرين إلى الوقوف قليلا أو كثيرا عند مادة النصوص القرآنية من حيث ألفاظها وطرائق تركيبها، ثم خطوة جد يسيرة بعد ذلك، فإذا هم - على أيدي نفر ممتاز بحدة الذكاء ودقة التحليل، فضلا عن قلب مشغوف بهواية البحث والنظر - يتناولون اللغة من جذورها الأولى، ومصادرها الأولية، يتعقبونها تحليلا وتمحيصا، وجمعا وتبويبا، ومقارنة وتأسيسا لقواعدها وأركانها، وحسبك أن ترى في نظرة واحدة رجلين من هذه القامات العملاقة التي نراها في الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه.
عاش الخليل بن أحمد على طول ثلاثة أرباع القرن الثامن الميلادي الأخيرة، وكان أهم ما شغله في أعوامه النشيطة من حياته نظرات فاحصة نافذة عميقة مستوعبة، في اللغة العربية وفي نحوها، وفي الشعر العربي وبحوره، وإن الواحد منا - نحن أبناء القرن العشرين - إذا ما كر راجعا ليقع منه البصر على رجل في علم الخليل وفي علمية نظره، ثم في بساطة عيشه، لتأخذه الدهشة مما يرى؛ فمثل هذا الذكاء الخارق، وهذه المنهجية في النظر والتصنيف، والوصول إلى القواعد الصحيحة، لو كان هذا كله في عصرنا نحن، لأصبح الرجل بغير أدنى شك من أئمة علماء الذرة أو أعلام التكنولوجيا، فالعبقرية أداة فعالة في أي مناخ وضعتها فيه، فإذا وضعتها في عصر تشغله المسائل الفلسفية كما كانت الحال في مناخ اليونان القديمة، كان لك بذلك أفلاطون أو أرسطو، وإذا وضعتها في عصر تشغله مسائل العلم الطبيعي، كما كانت الحال في أوروبا خلال القرن السادس عشر وما بعده، كان لك بذلك جاليليو أو نيوتن، ولقد وضعت هذه العبقرية في البصرة خلال القرن الثامن، حيث المناخ الفكري مشحون بمسائل دينية بنيت حلولها على دراسات لغوية، فكان لنا رجل كالخليل.
وما ظنك برجل يضع للغة العربية أول معجم (لقد قيل إن معجم «العين» المنسوب إلى الخليل، والذي نتحدث عنه الآن، هو في الحقيقة من عمل تلميذه «الليث» ونسب خطأ إلى الخليل - راجع في ذلك الدكتور شوقي ضيف في كتابه «البحث الأدبي»، ص7، 218، 273 - لكننا نؤثر هنا أن نجري على العرف الأشيع، فالمهم في موضوعنا هو الكتاب لا الكاتب)، ويستخرج للشعر العربي للمرة الأولى بحوره؟! إنك قد تمر على حقائق مذهلة كهذه مغمض العينين، فلا ترى أبعادها الفلكية إذا جاز لنا هذا التعبير عند الحديث على قدرة العقل البشري ومداها، فلقد ألفت عيناك أن ترى للغات معاجمها، فقد تقول لنفسك عندئذ: وماذا في معجم؟! كما ألفت أذناك الحديث عن تفعيلات الشعر وأوزانه، فربما قلت لنفسك هنا أيضا: وماذا في حصر لتلك التفعيلات والأوزان؟! ولكن قف لحظة عند قولنا: «أول» و«للمرة الأولى»! قارن بين رحلة يقوم بها في يومنا هذا مسافر على طائرة تعبر به المحيط الأطلسي في سويعات إلى أمريكا وبين رحلة كولمبس وهو يعبر ذلك المحيط «لأول مرة»! فها هنا في رحلة كولمبس نجد المغامرة والقدرة وعظمة الكشف العلمي من دياجير المجهول، وأما هناك في رحلة المسافر العصري على الطائرة فلا مغامرة ولا قدرة ولا كشف؛ فالخليل بن أحمد وهو يجمع ألفاظ اللغة العربية ليصنفها في معجم «لأول مرة» وأنت إذ تمد ذراعك إلى رف مكتبتك لتشد معجما تبحث فيه عن بغية لك ثم تعيده، إنما يفصل بينكما ما يفصل كولمبس عن مسافر الطائرة.
لأول مرة في التاريخ يجمع الخليل أشتات المفردات اللغوية بقدر ما مكنته الظروف، ولأول مرة رتبها في معجم، وليس قبله معجم يحتذيه، ثم نزداد ذهولا لهذه القدرة الفائقة، عندما نجد الرجل «يبتكر» - وأرجوك ألا تدع هذه الكلمة تمضي أمامك وأنت مغمض العينين - يبتكر طريقة فريدة في ترتيب الألفاظ في معجمه؛ فلقد وجد الخليل بين يديه طريقتين معروفتين في ترتيب أحرف الهجاء؛ فهنالك الطريقة التي تسمى بالأبجدية، وهي التي ترتب الحروف على غرار ما ترد في هذه الكلمات: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ؛ وهنالك أيضا الطريقة الأخرى التي ترتب الحروف على هذا النحو: أ ب ت ث ج ح خ ... إلى آخر هذه الحروف؛ على الترتيب الذي نألفه ويألفه أطفالنا إلى اليوم، فلا أخذ الخليل عند تصنيفه لمعجمه بالطريقة الأولى ولا أخذ بالطريقة الثانية؛ إذ لعله لم يجد فيهما أساسا علميا، ويكفي أنهما ترتبان الحروف ترتيبين مختلفين؛ لنعلم أن فيهما عشوائية لم ترضها نظرته المنهجية. «وابتكر» الخليل لنفسه طريقة ثالثة تقام على أساس علمي لا مجال فيها لاختلاف النظر؛ وذلك أنه رتب الحروف بحسب مخارجها عند النطق، فأقصاها مخرجا يرد أولا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتين يرد آخرا، وما بين الأقصى والأدنى ترتب الحروف بحسب المخارج المتعاقبة، فكان أن وجد لها هذا الترتيب: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ا ي.
وإني لأدعوك أيها القارئ مرة أخرى إلى النظرة المتمهلة لئلا تفوتك هذه النظرات العلمية الجانبية، فكم من دقة النظر، وكم من موهبة في إدراك الصوت، يحتاجه إنسان ليتعقب الحروف المختلفة إلى مخارجها عند النطق بها؛ ليرى أيها أقصى من الحلق وأيها أدنى.
ثم ماذا بعد فراغه من الترتيب؟ يجيء بعد تحديده لمواضع الحروف في سلسلة التعاقب خلال معجمه، استقصاء للألفاظ؛ ليصنفها، وحتى هنا لا تراه يكدس الألفاظ بعضها إلى بعض كأنها الغلال المكومة، بل يحصرها أولا في أنواعها من حيث مبناها - وهو هنا يستعين بما ذكره الصرفيون من قبله في حصرهم لأبنية الكلمة، فهي إما ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية - شأن العلماء في أخذ النتائج الصحيحة بعضهم من بعض؛ حتى لا يبدأ كل عالم من الصفر، وكأن لم يسبقه علم ولا علماء.
وبعملية رياضية بارعة، استطاع أن يحصر - من الوجهة النظرية الرياضية الصرف - كم صورة لفظية يمكن أن تنتجها لنا هذه الأبنية الأربعة في تباديلها وتوافيقها؛ فالعدد الناتج هو حصر كامل لصور اللفظ العربي، من حيث الإمكان النظري، حتى ولو لم يتحول هذا الإمكان النظري في بعض الحالات إلى واقع فعلي، بمعنى ألا نجد له لفظا مما قد استعمله العرب بالفعل، ثم أخذ يضع في هذه الأقسام ما قد تجمع له من ألفاظ مستعملة، مرتبة بحسب مخارج الحروف كما ذكرناه، ولما كان الحرف الأول في هذا الترتيب، هو حرف «العين»، أسمى معجمه «بالعين».
Bilinmeyen sayfa