Makul ve Makul Olmayan
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Türler
سحر وتنجيم
68
لعل قمة اللامعقول في حياة الإنسان العملية - والعلمية الزائفة كذلك - هي أن يدخل السحر عاملا من عوامل المسير والمصير؛ إذ ما السحر إن لم يكن هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية؟ فإذا كانت علة المطر الطبيعية - مثلا - هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفا يختارها أو عبارات، يزعم لها القدرة على إنزال المطر؛ وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدثه، كانت هذه العلة عند الساحر عفريتا سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال وبخور يعطر جو المكان ويطهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس، وهكذا.
ولئن كانت هذه الصور الصارخة من أشكال السحر أمرا يألفه الناس في حياتهم العملية على أنه سحر علني مكشوف، فهنالك ضروب أخرى منه خافية إلا عن أعين الخبراء، كأن يحاول شعب أن يتغلب على عدوه في ساحة القتال بدعوات يوجهها إلى السماء، في حين لا تكون الغلبة إلا بطائرات ودبابات يحسن إدارتها وتوجيهها، أو أن يرقب شعب ازدهار معيشته ببركات الأولياء، سواء أحكمت خطط الإنتاج الاقتصادي أو تركت سبهللا في أيدي السفهاء. هذه وأمثالها تندرج تحت مقولة «السحر» لأنها جميعا ربط غير علمي بين المعلول وعلته.
ولقد تجد في تراثنا القديم أحاديث عن السحر والتنجيم والتعزيم والرقى والتمائم وسائر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة من أدوات الجهل، ألوف الصفحات مبعثرة هنا وهناك في أنفس ما خلفه الآباء من ميراث ثقافي، ولم تكن أمثال هذه الأحاديث لتشغلنا بخطرها وخطورتها، لو لم تجدها واردة في أماكنها من الكتب مسوقة على نحو يشعر القارئ بأنها أمور لا تحتمل الجدل؛ فترى الكاتب - وقد يكون من جهابذة الأعلام المفكرين - تراه يحدثك عن التأثيرات السحرية بكل أنواعها وكأنه يحدثك عن طلوع الشمس وجريان النهر واخضرار الزرع، فهي عنده أمور تجري مجرى الطبيعة المألوفة في اطرادها، وربما كان لهؤلاء الآباء أعذارهم في ذلك إذا نسبنا الأمر إلى مرحلتهم التاريخية والحضارية، ولكن كارثة الكوارث التي تكرثنا اليوم - نحن «المعاصرين» - أننا ما زلنا نقرأ هذه الأشياء، بل وندخل بعضها في شئون حياتنا العملية والعلمية، بروح من لا يجد فيها غضاضة ولا داعيا للشك والتردد، ثم تعظم المصيبة حين ندرجها تحت مقولة «الإيمان» ونصب الويل على من تحدثه نفسه بمجرد المراجعة الفاحصة.
وليس بذي نفع كثير أن نتقصى الأمثلة من تراثنا على نحو يشبه الحصر والشمول، بل ليس ذلك في مقدورنا حتى لو أردناه؛ لأنك إنما تسلح نفسك بالشواهد الكثيرة لو كنت تعلم أنك ستواجه من يعارضك في زعمك، بيد أن الأمر هنا معكوس؛ فالأرجح جدا ألا يطالع هذه الأسطر قارئ إلا وهو ذو عقيدة سابقة بحقيقة السحر وبقية أفراد أسرته من تنجيم وتعزيم إلخ، وإنما الغضبة منصبة على كاتب هذه الأسطر لاجترائه على التشكك في مسلمات كهذه، والدعوة إلى تنحيتها فيما ينبغي أن ننحيه من تراثنا، وإذن ففيم كثرة الشواهد على موقف مسلم به ولا يطلب له شهادة إثبات؟
ومع ذلك فيكفينا في هذا السياق مثل واحد أو مثلان، نأخذ أولهما من رسائل إخوان الصفا، وما أدارك ما إخوان الصفا؟ هم ذروة المثقفين في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) الذي هو بدوره ذروة ما صعد إليه الفكر العربي القديم؛ فإذا وجدنا صفوة الصفوة هؤلاء، برغم نزوعهم القوي نحو التفكير العلمي ما وسعهم ذلك، يختمون رسائلهم برسالة يخصصونها ل «ماهية السحر والعزائم والعين»، لا ليحيطوا الموضوع بما يثير الريبة، بل ليحيطوه بما يؤيد كل ما يقال عنه من قوة وتأثير، أقول إذا وجدنا تلك الصفوة الممتازة من المثقفين تقف هذه الوقفة من موضوع السحر وفروعه، علمنا أن المسألة لم تكن عند القوم موضعا لسؤال، وهذا هو مصدر خوفنا من هذا الجانب من التراث الفكري المأثور عن أسلافنا.
يبدأ إخوان الصفا هذه الرسالة الثانية والخمسين من رسائلهم، وهي الأخيرة، بقولهم إنهم رتبوا «فنون العلم وغرائب الحكمة» في الرسائل السابقة (ويلفت نظرنا أنهم يجعلون هذه الرسائل السابقة خمسين، مع أننا أمام الرسالة «الثانية والخمسين») بحسب ما تقتضيه درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين. وهم يتوقعون من أنصارهم أن يعرضوا على الناس موضوعات تلك الرسائل بحسب ترتيبها الذي وردت فيه؛ لأن كل خطوة تالية على الطريق تتطلب عقلا أكثر نضجا من الخطوة التي سبقتها. ولما كانت رسالة «السحر والعزائم والعين» هي آخر الطريق ، وجب ألا تعرض إلا على من ارتقوا بعقولهم ونفوسهم درجات الصعود إلى الكمال درجة درجة ومرتبة مرتبة! «وهذه الرسالة هي آخر الرسائل - هكذا يقولون - نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطلسمات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة، وكبعض الحكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضى قبلنا.» وليلحظ القارئ هنا أنهم يشيرون إلى السحر وتفريعاته على أنها «علوم» من جهة، و«حكم مستعملة» من جهة أخرى؛ أي إنها أمور تدخل في الحياة العلمية وفي الحياة العملية على حد سواء، ثم ليلحظ مرة أخرى أن الشاهد على صدقها - في رأيهم - أنهم «سمعوها من العلماء»، و«عرفوها من كتب القدماء»؛ أي إن أحدا منهم لم «يجربها» تجربة مباشرة! وما زلنا إلى يوم الناس هذا، وهو اليوم الذي أكتب فيه هذا السطر من هذا الكتاب، يوم السبت السابع عشر من شهر مارس سنة 1973م، أقول إننا ما زلنا إلى يوم الناس هذا نسمع من كل من يحيط بنا توكيدات مرتعشة لحقيقة السحر وأفراد أسرته، حتى إذا ما سألت أيا منهم، هل رأيت؟ أجابك بل سمعت!
هذه هي حالنا نحن اليوم، العلماء منا وغير العلماء، أفليس من حقنا - إذن - أن نعجب لقول إخوان الصفا: «... رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل [على] واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا، المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين.» إننا إذا اعتمدنا على هذا القول من إخوان الصفا، وجعلناه تصويرا للحياة العلمية في عصرهم، أخذنا العجب حقا؛ فمؤداه - كما ترى - أن هؤلاء الإخوان (والحظ جيدا أنهم من خاصة المثقفين في أزهى عصور الفكر العربي) يميزون بين «العلماء» و«المتعالمين»، والآخرون وحدهم - أي المتعالمون دون العلماء - هم الذين يتنكرون للسحر وينكرونه، وأما «العلماء» - من أمثالهم هم - فيقبلونه حقيقة علمية! ولماذا يتنكر «المتعالمون» للسحر والتنجيم، على حين يقبلهما العلماء ؟ يجيب إخوان الصفا عن ذلك بقولهم: «وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له، إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزا خرفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله - إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات - أنفة منهم؛ لئلا ينسبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات .» فإذا نهض بخواطرنا سؤال: كيف - إذن - يؤمن علماؤهم الأصحاء بما يؤمن به أولئك البلهاء المخرفون، مع أن «المتعالمين» قد أنفوا من ذلك؟ أجابنا إخوان الصفا بأن البلهاء والمخرفين إنما يطلبون هذا العلم (المقصود هو «علم» السحر والتنجيم) «لأغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة ...» وما علموا أنه آخر ما يرقى إليه طالب الحكمة؛ لأنه يتضمن معرفة علمية سابقة بثلاثة أشياء، هي: الكواكب، والأفلاك، والبروج.
والذي نريد إثباته هنا هو أن اليوم شبيه بالبارحة؛ مما قد يدل على أن تراثنا قد سرى في عروقنا أكثر مما كان ينبغي له أن يفعل لو وجد الموانع والضوابط؛ فما زلنا إلى اليوم نستنكر من ينكر أن يكون السحر وأتباعه من «العلوم» كما كان أسلافنا يستنكرون، ثم ما زلنا اليوم كما كانوا بالأمس لا نجد غضاضة في أن ندرج أفعال السحر فيما يجوز للعقل أن يقبله. ولو شربنا من ثقافة عصرنا العلمية، بمنهجها التجريبي الصارم، لوجب أن نعكس الوضع؛ فمن عدهم إخوان الصفا «متعالمين» لإنكارهم أن يكون هذا التخريف جزءا من العلم، عددناهم نحن «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن عدوهم «علماء» لقولهم ما «سمعوه» عن الأقدمين وما «قرءوه» في الكتب الغابرة، أخرجناهم نحن من عداد العلماء والمتعالمين معا؛ لأنهم عندئذ إنما يسلكون في زمرة البلهاء الخرفين الذين أشار إليهم «الإخوان» منذ حين.
Bilinmeyen sayfa