Makul ve Makul Olmayan
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Türler
وانتقل بعد هذا التمهيد إلى تقسيم العقل إلى مختلف معانيه، فقال: «... اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، وحقيقة الأمر هي أن اسم «العقل» يطلق بالاشتراك على أربعة معان، كما يطلق اسم «العين» مثلا على معان عدة؛ فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد.
أما بالمعنى الأول فالعقل ما يميز الإنسان من سائر البهائم؛ إذ هو بهذا المعنى دال على ما استعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الدقيقة المستندة إلى فكر.
وأما بالمعنى الثاني فالعقل هو ما يتمثل في تمييز الإنسان منذ طفولته بين ما يجوز وقوعه وما يستحيل وقوعه، ويتمثل في إدراك الإنسان منذ طفولته كذلك للحقائق الأولية البديهية فيقبلها وكأنما هي نابعة من فطرته، كأن يقال له إن الاثنين أكثر من الواحد، وإن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.
ويلاحظ أن العقل بالمعنى الثاني نتيجة مشتقة منه بالمعنى الأول؛ فهنالك فطرة معينة تحدد طبيعة الإنسان وتميزه من سائر الحيوان، ثم تنبثق من هذه الفطرة قدرة معينة على بعض الإدراكات والتمييزات.
وأما بالمعنى الثالث فالعقل معناه مجموعة ما اكتسبناه من تجارب، أنارت أمامنا الطريق في دنيا الأشياء فعرفنا كيف نسلك وكيف نستخدم تلك الأشياء؛ فهو بهذا المعنى يساوي ما نطلق عليه كذلك اسم «الحنكة»، فنقول عن رجل إنه محنك، حين نريد أن يحسن تصريف الأمور مهتديا بخبرته الماضية. ويلاحظ الغزالي أن العقل بهذا المعنى الثالث نتيجة تترتب على المعنيين الأولين؛ فلولا ما هو مغروز في طبائعنا من استعدادات، وما يتمثل به ذلك المغروز الفطري من قدرة على الإدراك والموازنة، لما استطعنا الإفادة بالتجارب الماضية بحيث نستخدمها في مواقفنا الماثلة أمامنا.
وإن العقل بمعانيه الثلاثة السابقة، لينتهي بنا إلى معنى رابع وأخير، وهو قدرة الإنسان على معرفة عواقب الأمور؛ ومن ثم يأتي وجوب قمع الشهوة الداعية إلى لذة عاجلة وضرر آجل. فإذا اكتسب الإنسان هذه القدرة على نفاذ البصر إلى النتائج البعيدة، ثم القدرة على قهر نفسه بحيث لا تقبل إلا على ما هو صالح لها في المدى البعيد، سمي إنسانا عاقلا «من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة».»
55
إلى هنا وإمامنا الغزالي عقلاني النظر إلى أقصى الحدود، لا يختلف ولا يتخلف في مضمار العقل عن أئمة المنهج العقلي على طول التاريخ الفكري، من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه.
لكن الذي يستوقف نظري - وأقولها على تردد شديد، بل إني لأقولها على ترجيح بأن أكون على خطأ لا أراه - الذي يستوقف نظري بعد ذلك، هو أنني لا أجد المنهج العقلاني الذي أوصى به الغزالي مطبقا عند الغزالي نفسه فيما بحث وكتب وألف، وإلا ففي أي كتاب من كتبه نراه قد حرص على أن يقيم نتائجه على أفكار «أولية» بالمعنى المنطقي لهذه العبارة؛ أي بالمعنى الذي يجعل تلك الأفكار الأولية فطرية في جبلة الإنسان، لا سبيل إلى إنكارها لأن إنكارها تنكر منا لتلك الفطرة؟ ولا شك أن الغزالي حين أوصى بإلحاح شديد أن نضمن يقين النتائج بضماننا ليقين المقدمات ، وأن يقين المقدمات لا يتوافر لنا إلا إذا كانت تلك المقدمات حقائق «أولية» بالمعنى الذي ذكرناه، قد كان يعني ما يريده المنطق بهذه الألفاظ، وأعود فأسأل: في أي كتاب من كتبه نراه قد بدأ بمثل هذه الحقائق الأولية اليقينية؛ ليضمن بها يقين النتائج التي يستدلها منها؟ إنه ليغلب على الغزالي في تأليفه (وانظر في ذلك مثلا طريقته في «إحياء علوم الدين») أن يبدأ بذكر المأثور من أقوال السلف في الموضوع الذي يهم بالكتابة فيه، ثم ينطلق على أساس هذا المأثور فيذكر للقارئ ما أراد أن يذكره؛ فكأنه يبدأ بالرواية عن الماضي ليجعل تلك الرواية سنده فيما ينوي أن يقوله، وذلك بعينه ما حذرنا من فعله إذا أردنا لأنفسنا منهجا عقليا في ميادين الدراسة على اختلافها. إن قولنا: «قال فلان ...» - مهما تكن منزلة فلان هذا - هو أبعد ما يكون عن الاستناد إلى «أفكار أولية» يقينية بحكم منطقها، لا بحكم منزلة قائليها.
لقد كان الغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي أعظم رافض للفكر اليوناني متمثلا في فلسفة اليونان، وفي فلسفة أرسطو منها على وجه الخصوص، وفي ظني أن هذا الموقف الرافض من الغزالي تجاه الفكر اليوناني قد كان من أهم العوامل التي أكسبته المنزلة الرفيعة في أعين الأجيال التي تعاقبت بعده، وإلى يومنا هذا؛ فالفكر اليوناني هو فكر «الغرب»، وهو فكر قائم على التجريد العقلي الصرف، وذلك هو أبرز ما يميزه عن فكر «الشرق» في أخلص صوره وأنقاها وأبعدها تأثرا بالعوامل الخارجية، وإذا شئت فقارن بين أي شيء كتبه فيلسوف من الصين أو من الهند، وأي شيء كتبه فيلسوف يوناني؛ فعندئذ سترى في وضوح لا يحتمل الشك بأن الأول يكتب ما هو أقرب إلى أدب حكمي؛ لأنه يكتب عن خبرة استخلصها من وعيه بالحياة وعيا مباشرا، وأما الثاني فيعلو إلى درجات من الفكر المجرد الذي يكاد يصبح معه فكرا رياضيا خالصا، ولسنا نقول بهذا إن «الفلاسفة» العرب كانوا أقرب إلى نموذج الشرق الصيني والهندي منهم إلى نموذج اليونان، بل إنهم - على عكس ذلك - قد أوشكوا أن يكونوا هم الفلاسفة اليونان أنفسهم في ثوب عربي، لكن من أعلام الثقافة العربية الأصيلة من أحس القلق تجاه الفلاسفة اليونان وتجاه أصدائهم على أقلام الفلاسفة العرب، فنهضوا لمقاومة هؤلاء وأولئك، وعلى رأس المقاومين كان الغزالي.
Bilinmeyen sayfa