ولما امتحن عبد الحميد صدق ربيبه وجرب إصابة رأيه رمى به الدواهي ففرج له غماءها وأزاح مخاوفها، فكان يتكل عليه في شدائده ولا يحبه، وما أحب عبد الحميد أحدا من الناس ولا أبناءه الذين من صلبه. ولقد عرف لدى العثمانيين باسم «سر خفية»، ومعناه رئيس الجواسيس، وكان ذلك من حظ المظلومين، فكم أنصف منهم من حاق به الظلم، وكم أغضب عبد الحميد ليرضي فقيرا لا يملك قوت يومه، وما عهد الناس عليه تجسسا ولا عرفوا له مثلبة تشبه التجسس، والرجل لا يملك اليوم لنفسه ضرا ولا لغيره نفعا، ولو افتريت عليه كذبا وبهتانا لما لحقني منه سوء. غير أني أقول لا مرتقبا جزاء ولا طالبا شكورا. لعمري لنعم الرجل الهمام أحمد جلال الدين.
ولا أنسى ما سمعت منه كثيرا بمحضر من حاشية عبد الحميد من الكلام الذي يتجاسر عليه حر من الأحرار. ولقد دعاني ذات يوم إلى منزله وقال لي: بلغني أن قد جاء الآستانة شاب ممن كانوا في جنيف، ونزل متنكرا بمكان في «بيرا» لا أعلم أين هو، والأحرار لا يخفون عنك أنفسهم، فاذهب وفتش عليه حتى تجده، فقل له إن فلانا يهديك سلامه ويقول لك إنه اتصل به أن جماعة من الجواسيس يفتشون عنك. فإذا وجدت سبيلا إلى داري فلا تبطئ في الالتجاء إليها، وإذا تعذر عليك ذلك قل إني استدعاني أحمد جلال الدين، وأنا لا أذهب إلا مع رجاله. فقضيت يومي أسأل عن الشاب الذي ذكره لي فلم أجد له أثرا، وأخبرته بذلك في المساء فغمه الخبر، وقال: سأبذل كل مرتخص وغال في معرفة مكانه لأجعله في مأمن من شر أعدائه.
وكانت العداوة بلغت مبلغ الكمال بيني وبين أبي الهدى، فجاءني منه الوعيد بعد الوعيد، وكنت كتبت في سيئاته فصولا نشرت بجريدة الرائد المصري الذي كان يصدرها بمصر صديقي القديم نقولا أفندي شحادة، وانتحلت لنفسي إمضاء زهير؛ إذ لا يصح لموظف في الحكومة أن يراسل الجرائد. وقد قلت قصيدة خاطبت بها عبد الحميد أذكرها ها هنا إيثارا لواقعتها:
ألا اقتل، أمير المؤمنين، أبا الهدى
فقد جار في الإسلام ما جار واعتدى
سعى مفسدا بين الرعية جاهلا
فلم يستطع ثم استطاع فأفسدا
تظن به خير ولا خير عنده
وما هو إلا الشر في جبة بدا
رفعت، أمير المؤمنين، مكانه
Bilinmeyen sayfa