هذه الذكرى تبعث الشجون وتقف بالمرء موقف الشك حتى في ذاته؛ فوالله ما أدري أتعجيل مغنم أم حب وطني استخفني! ظللت ليلتي مفكرا أطالع صحائف الماضي من تاريخ حياتي، فإذا بالأربع وعشرين سنة من أيام عمري إذ ذاك لا تفي باستنتاج عبرة ولا بمعرفة صواب. شباب منشؤه الشرق ومجاله الشرق، وأيام خلت بين الدفاتر والأقلام في تصوير خيالات لا حقيقة وراءها، ومكتسب نزر من العلوم يكاد لا يعد شيئا. أريد ولكنني لا أدري ما أريد ولا كيف أريد. قلت أظل أخدم الحرية حتى ينصر الله جيشها وتخفق على بلادي رايتها، ولكن الرجل أخبرني أن خدمتي تؤخر حصولها، وأن السلطان لا يضن بها إذا اختار السكوت طالبوها. قلت أذهب إلى الآستانة وأقيم فيها على مناصرة إخواني المجاهدين وأعمل على خير وطني، فلم يعدني الشك وقلت من لي بمن يضمن لي صحة ذلك. ثم من هذا الرجل الذي سخره الله لي ليقف في وجهي ويقيد يميني حتى لا تخط في سبيل الحق حرفا، ويكم فمي فلا ينطق في نصرة الحرية كلمة، وما له علي من سلطان، وأنا في مأمن من كيده إذا شاء أن يكيدني! وهل هو صادق فيما يخاطبني به؟ أم يريد أن يسرق مني فؤادي؟ ولقد نظرت إلى صور من جاهدوا في سبيل الحرية وهي معلقة أمامي على الحائط، وفيها أبو الأحرار وحاميهم مصطفى فاضل العظيم، وشاعر الوطن وشهيد هواه نامق كمال، فخيل لي أنهما يرميان إلي بألحاظ ملؤها عتاب، كأنهما يريدان أن يقولا لي أكذا حبك لبلادك؟ أنت لا أقال الله عزتك جندي خائن؛ اعتقلت سلاحك وبرزت في ميدان الحفاظ، ولما رأيت التماع النضار بأيدي الأعداء ملت إليهم وتركت من وراءك من أعوان نجدتك وإخوان غزوتك غير متلفت نحوهم، ألهذا رجوناكم يا أعقاب السوء وعباد المال وحثالة رجال البأس؟! فأقف صامتا واجما لا أدري ما أجيبهما به. غير أني قلت ليس بيني وبين الجماعة إلى الساعة أمر مبرم فأوخذ به، وأنا لو شئت لأنلتهم من بغيتهم طول الحسرة عليها، وعقدت العزم على أن أخاطب من أثق برأيه وأعرف بعد نظره.
ولما كان الغد بكرت نحو مستشاري، فأطلعته على قصتي من أولها إلى آخرها وقلت له: الآن لك حكمك.
قال: يا ولي الدين، سافر على حب الله، ومن أحب الوطن أحب الموت في سبيله. فإذا صدق القوم في وعدهم وأقر عبد الحميد الدستور، فحسبكم أن تكونوا يومئذ غارسي أعواده ومجتني ثمراته، وإن نابكم من خطبه ما عساه يكون أضمره فتلك سبيل إن منكم إلا واردها، وإنه ليسليكم أنكم ذاهبون في خلاص الوطن. ثم اعلم أن الجنرال جلال الدين لا يقاس بغيره من المقربين، أولئك يبيعون أولادهم إبقاء على حظوتهم، والجنرال لا يدخل في مأزق يشك في الخروج منه؛ وهو إذا استشعر تحت الأمر بشر يؤثر الموت على أن يعيش متهما في ذمته.
قلت: غدا يذيع بعض المفسدين بين الناس أني سافرت إلى الآستانة طلبا للمال، وأني بعت وطني بيعا.
قال: دع الناس وما يقولون، ما سلم من ألسنتهم أحد قبلك فتسلم أنت، أنت في شأنك وانفع وطنك إذا استطعت له نفعا؛ فإن كان في الناس من يعرفك حق المعرفة فقد كفيت عنده شر الملامة، وإن كان فيهم من لا يعرفك فبينك وبينه الأيام. أنت رجل بغير نصير، ولو كان لك حزب يتحدث بصنائعك ويبلغك بالمدح عنان السماء لاستقام في عليائه جدك وأقبلت دولتك، وبينا نحن نتحادث إذا بخادم مستشاري الجليل يستأذن لغريمي، فأذن له، فدخل علينا مسلما، وأطلعه مستشاري على ما خاطبني به، ولم نلبث أن تم بيننا التراضي على سفري.
ولقد رأيت كثيرا من رجال الحرية وأنصارها الذين لبوا دعوة عبد الحميد وتسابقوا إليه يرجون ثوابه، يحاولون اليوم إنكار ما كان من عودتهم ليقول الناس إنهم كانوا معذورين، ومنهم من يقول أنا كنت آخر الراجعين، ومنهم من يقول أنا لم أرجع، وكل هذا تضليل وبهتان، بلى هو أعظم من التضليل والبهتان. ويا خجلة المرء عند نفسه أن يكون منافقا وأن يكون جبانا، ووالله ما أدري ماذا يرجون وماذا يتقون؛ فإن كانوا يرجون أن يجازوا بالوظائف العالية، وأن يسير خلفهم العامة هاتفين: ليحي أبطال العثمانية، ليحي حماة الدستور؛ فهذا فخر ابتذل حجابه وبات جديده خلقا. وإن كانوا يتقون ما ينزل بالخونة والجواسيس من العقاب، وعلموا أنهم هم الخونة والجواسيس، فتعسا لهم إن جمعوا الخوف إلى اللؤم، وفي خلة منهما ما يغني عن أختها، لعمري لنعم المناط للعدل عقدة حبل تقضي بها للعدل حقه، وأنا امرؤ رجعت إلى الآستانة رجوعا ليس فيه ما يخجل الحر؛ ومن أجل هذا أقول غير مستشعر خوفا ولا آمل نفعا: لوطني مني حياتي وكل ما كان دونها على أن أعيش عثمانيا وأموت عثمانيا.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده: كتب غريمي إلى الجنرال أحمد جلال الدين يخبره بما كان من رضائي، فجاءه الجواب بسفري مع والدتي وأخي يوسف حمدي يكن، فسافر غريمي معنا إلى الإسكندرية وفيها نزلنا بنزل «أبات». ولقد رأيت على باب النزل فخري باشا ومحمود شكري باشا. أما الأول فلم يكن يعرفني إلا اسما، وأما الثاني فكان يعرفني جيدا، ولكنه لم يكن محبا لي بعد ما جرى بيني وبين المعية. فأشار غريمي إلى الأميرين بيده واضطرني إلى السلام عليهما، فحيياني أجمل تحية وانصرفت. وقد قال محمود شكري باشا لغريمي: أما وقد أخذت هذا، فهات المدافع وارم بها أي «قصر» شئت.
ولما استقرت قدمي على ظهر الباخرة المسماة «توفيق رباني»، وأقلعت بنا تؤم «فروقا» بين آذي البحر وزبده، وأخذت يد الفضاء ويد الماء تنطبقان على البر، جرت على لساني هذه الأبيات التي أذكرها هنا لإشارات فيها لا تخفى على اللبيب. قلت:
قد دعاني داعي فروق إليها
فأجبت الدعاء حين دعاني
Bilinmeyen sayfa