اجتازت بنا الباخرة مرسى «بشكطاش»، فاطلع علينا من ورائها قصر «يلديز» على هضبته. وبينا نحن ننظر إليه ونستعيذ بالله منه، إذا مدفع قد دوى ثم تلاه غيره، فعددنا المدافع فكانت سبعة. وهذه عادة فروق إذا حدث فيها حريق، فجعلنا نطلب بأبصارنا مكان النار، ثم لم نلبث أن لاحت قريبة من «يلديز»، وكنت أعلم أن لن تصل إليها فحولت عنها بصري وجعلت أمتعه بما يتجدد أمامه من محاسن فروق. ظللنا على تلك الحال حتى دانينا باب البحر الأسود، فوقفت عنده الباخرة وألقت مراسيها قبيل الحصون. وكنا غلب علينا الإعياء وتواكلت أقدامنا من طول الوقوف، فأشار علي صاحبي بالنزول إلى موضع نومنا فنزلنا جميعا، وحين أخذنا مجلسنا للراحة أخبرني عن اسمه فإذا هو موسى كاظم بك، وأعلمني بوظيفته فإذا هي وظيفة ياور لناظر الضابطة ورتبته ملازم أول. وقد وجدت كلامه لا يشبه كلام رفاقه الذين تقدموا، فاستأنست به، وعرف مني ذلك فقال: سترى في الولايات حياة جديدة غير التي رأيتها في الآستانة، ويا ليتني كنت مكانك الآن. أقول لك ذلك لأني قضيت شطرا من عمري متنقلا في مدن الأناضولي، وما مرت علي ساعة في تلك المواضع وشكوت منها أمرا. - كذا ينبغي أن تكون. كل موضع يبعد عن «يلديز» يقرب من النعيم . - صدقت . وسترى مني خادما مطيعا وخلا وفيا. ولا أسألك من الجزاء إلا أن تكون جلدا وأن تجعل ما أنت فيه اليوم من محنة الدهر مغنما من التجاريب لا مغرما باليأس. - سترى مني حمالا لأثقال النوائب، صبورا على فادحات الكرب. غير أني سائلك عن أشياء أرجو أن تصدقني في الإجابة عنها. - سل ما بدا لك. - إلى أين يكون مصيري؟ - إلى صامسون، وإخال أنك ستوظف وظيفة فيها. - وما تكون وظيفتي؟ - لا أدري. - ألا أسجن فيها أياما؟ - لن تسجن فيها ولا ساعة واحدة. - ويحك، ما أدلك على طرق المكر، وما أغباني ساعة أملت فيك الصدق! قم عني إلى لعنة الله، لن أكلمك مذ الليلة. - سيدي، أنت رجل كثير الوسواس، ولولا غلبة الجزع على ذات نفسك ما اتهمتني من غير تجربة. شهد الله أني ما كذبتك في شيء مما أخبرتك به. وسواء علي صدقت أم لم تصدق. لا أحاول إقناعك. ثم اعلم أنني صحبت قبلك كثيرا من الرجال إلى الأقطار التي نفوا إليها، فما ذمني منهم أحد. وهذا إسماعيل بك صفا الشاعر التركي الشهير؛ صحبته إلى سيواس. وغيره كثير لو شئت أن آتي لك على أسمائهم لقضيت الليل في عدها. - إذن، أنا لا أسجن؟ - نعم، وبرئت من عثمانيتي إن كنت كاذبا. - لقد قامت حجتك. ولكن متى نفي إسماعيل صفا؟ - منذ عامين. أتعرفه؟ - نعم أعرفه بآثاره. وكنت مولعا بمجلته التي سماها «معارف»، ثم عرفني به أحد الفضلاء في إحدى ليالي السمر، وكان حديثنا غير طويل.
وقد استطال حديثي مع كاظم بك إلى ما بعد نصف الليل، فعلمت منه أنه ابن أخي الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس إذ ذاك، وأنه نفي وسجن وذاق أمر طعم النوائب، وأنه لولا استشفاع عمه لقامت عليه نوادبه. فلما أخذنا حظنا من الحديث مال كل إلى مضجعه، فما انتبهنا إلا على هزج الباخرة وضرب الأمواج، فلم نر إلا الأسود الخضم في أزباده البيض وتحت سمائه المحتجبة وسحبها الداجية. شططنا عن المعاهد والرسوم ويممنا قصدا لا ندري متى نحن مدركوه، فقلت لكاظم بك: ترى، أيعلم أهل بيتي شيئا من خبري؟ - ذلك علمه عند الله، والقوم لا يخبرون الناس خبرا. - وما الحيلة في إخبار أهلي بأمري ليهدأ روعهم ويخف حزنهم؟ - أرى أن تصبر حتى ننزل بصامسون. أما الآن ونحن في عرض البحر فلا نستطيع شيئا.
هذا جواب حسن عنده سكوتي، وفي النفس من برحائها ما لا ينهض به عزم، فبقينا في الباخرة خمسة أيام، وما انتهينا إلى صامسون إلا أصيل اليوم السادس. وما مر بنا في سفرنا هذا ما يصلح للذكر سوى أن فرغ الفحم منا حين بلغنا «أركلي»، وأن الربان عانى الشدائد حتى حصل من «مورده» ما يحتاجه. ولما بلغنا حصن «سينوب» أقبل علينا من الشط زورق يقل جماعة من الشرطة يتوسطهم رجل نحيف الجسم قصير القامة أصفر اللون ذو لحية سوداء، تلوح عليه سيماء أهل الفجور، فسألت كاظم بك: ممن الرجل؟ فأخبرني أنه مدير التحريرات في متصرفية «صامسون»، وأن أباه أنيس باشا والي قسطموني عدو الأحرار الفاتك بمن نفي منهم إلى ولايته. وأنيس باشا كان أشد ظلما من عبد الحميد؛ وهو الذي غذا الأسواط من لحوم المظلومين الذي وقعوا تحت حكمه، حتى لقد استعظم ظلمه عبد الحميد وبعث إليه يأمره بالتخفيف فلم يمتثل أمره. كرهت لقاء ذلك القادم الثقيل فتنكبت طريقه، ولكنه سأل عني فقيل له إني منفي، فدنا مني وحياني، فحييته تحية كلها تكلف، وكان صاحبي كاظم بك عرف بعض طباعي فتداركنا بمحضره، ثم أشار إلى الرجل وخاطبني معرفا: البك نجل صاحب السعادة أنيس باشا والي قسطموني؛ وهو مدير تحريرات صامسون. - أهلا به. - لما سمع باسمك أسف لما أصابك. - شكرا له.
فابتدرني القادم بكلامه، فقال: إنما تعرف الرجال عند الشدائد، فلا تحزن لما أصابك، إن عفو سلطاننا مؤمل. - ما أنا بحزين. - رأيت بقسطموني كثيرا من المنفيين. غير أني لم أحفل بأحد منهم. ما فيهم من فتى كريم. ولقد أدبهم والدي فأحسن تأديبهم، وإنهم اليوم لأذل من العبيد.
فما رددت على الرجل بحرف، بل رميته بنظرة أدرك منها مرادي، فأخذ كاظم بك بذراعه وتنحى به جانبا. وقد رأيته يؤنبه على كلامه ويحذره مني. غير أنه لم يلبث أن عاودني وأخذ يكلمني، فأعرضت عنه بوجهي وتركته يهذي وحده، فذهب إلى الربان يحدثه بما قابلته به من الإعراض، فقال له الربان: ما علمنا به إلا حسن الخلق، ولكنه مكروب، والمكروب تضيق نفسه عن أشياء ربما اتسعت لها في أيام دعتها؛ فلا تؤاخذه بما رأيت منه، وأنا سائله الليلة عما أنكره منك.
وقد وفى الربان بوعده، فسألني عما انصرف بي عن مخاطبة ابن أنيس باشا. قلت: هو رجل اختلفت بيني وبينه الأهواء، ثقل على فؤادي أول ما سمعت من كلامه. فرأى الربان ألا يزيدني سؤالا، وكان ذلك آخر غرائب السفرة البحرية.
صامسون
لما نزلت مع رفيقي كاظم بك إلى البر استقبلنا رجال من الشرطة وغيرهم، وكانوا على انتظارنا، فداروا حولي وأبعدوا عني رفيقي واستبقوني وحدي في غرفة من الخشب، فمكثت فيها مدة، ثم عاد كاظم ومعه أربعة رجال من الشرطة، فأركبنا زورقا سار بنا حتى قارب دار المتصرفية؛ وإنما أركبوني الزورق ولم يسيروا بي في البر مجانبة لأعين الناس. فلما دخلنا المتصرفية صعدنا إلى غرفة استرحنا فيها قليلا، وجاء بعد ذلك رجل صحبني إلى غرفة المتصرف وكان اسمه حمدي بك، فإذا رجل حسن الوجه طلقه قام يتلقاني تلقي الصاحب لصاحبه، ثم أجلسني إلى جانبه وأظهر لي من الأنس والإكرام ما لم يخطر على بالي، وسألني عن سبب نفيي، فأخبرته بما انتهى إليه علمي، فقال: هذه سبيل سلكها كثيرون قبلك وليسلكنها كثيرون بعدك، فلا تخف ولا تحزن، أنت ذاهب إلى مدينة سيواس، وفيها يكون مقامك ما شاء ربك. إن طريقا تؤدي بك إلى النفي لتؤدي بك إلى الخلاص منه. وأنت في شبيبتك، وميدان الأمل أوسع للشبان منه للشيوخ، فكن جلدا واجعل أملك في جانب الله ثابتا. ولو كان في طاقتي خلاصك مما أنت فيه لأغنيتك عن الصبر. غير أني أستطيع أن أستبقيك بصامسون ثلاثة أيام إلى أن يشتد عزمك وأدعك حرا تسير فيها كما تريد على أن يصحبك أحد رجال الشرطة حيثما توجهت.
فشكرته بما هو أهله وقلت له: إني أحب التعجيل بالسفر. فدعا بكاظم بك وكبير الشرطة وأمرهما أن يفرجاني على البلدة، وأوصى بي كاظم بك خيرا، فخرجت من عنده متحدثا بمكارم أخلاقه.
فذهبنا إلى أحد الخانات وطلبنا إلى صاحبه أن يعد لنا غرفة نبيت فيها، وحين خلوت إلى كاظم قلت له: أرأيت كيف ظهر كذبك؟ - أي كذب ظهر لك مني؟ - ألم تقل لي ونحن بالباخرة إني أنفى إلى صامسون؟ وقد أخبرني المتصرف أني أنفى إلى سيواس. ما حملك - بالله - على أن كذبتني؟ وهل صامسون أحب إلي من سيواس؟ كلا البلدين أنا فيه غريب. - لو عرفت منك ذلك لأخبرتك اليقين. غير أني خشيت عليك الكمد، فاخترت الكذب ولا فائدة لي فيه. - دع ذا. إني أريد أن أخبر أهلي بما أنا صائر إليه. - لا سبيل إلى ذلك. أمرت ألا أدعك تخط حرفا على قرطاس، وأنت لا تحب أن يصيبني أذى بورقة لا تعلم أتصل إلى أهلك أم لا تصل. - صبر جميل. إن لي في إسماعيل صفا لأسوة، وإن لي في قربه لسلوة.
Bilinmeyen sayfa