ولكنك ستعلم أن شيخنا ، حياه الله ، صياد جبار متى سمعته يملي على تلاميذه الذين ضاق بهم المكان، فتخالك في أثينا لا في قرية من قرى «العواصم». وكان بين طلاب الشيخ واحد تجاوز سن الشباب ما عرف شيخنا من أمره إلا أنه من القاهرة واسمه إسماعيل التميمي. راب الشيخ أمر هذا الطالب؛ فكيف يضرب إليه أكباد الإبل وهو من مصر، وفي مصر «دار الحكمة»؟ نظمه الشيخ في إحدى حلقاته بعدما اعتذر له بضيق المقام وما نفع الاعتذار. احتج التميمي ببعد الشقة وأنه قصد ليغرف من بحر علمه ويقتبس من حكمته، فتأفف أبو العلاء لأنه ضاق ذرعا بمريديه؛ فبيوت المعرة تغص بهم وبيته لا يسعهم، فاضطر إلى جعلهم حلقات مختلفة، فريق يجيء، وفريق ينصرف، والشيخ متربع لا تحل له حبوة، ولا يتزحزح إلا حين تدعوه حاجة كالأكل والشرب وما يليهما.
وإذا ما انصرف طلابه وخلت الدار قعد يعد أمالي الغد، أمالي ممزوجة بكل ما يلابس الحياة ويلامسها من قريب وبعيد، وشأنه مع المسائل الخطيرة والخطرة شأن العصفور الدوري ينقد ويطير، ثم يكر ثانية، وهكذا دواليك حتى يشبع ويشبع تلاميذه ... يعالج جميع الموضوعات التي تنشئ رجالا وتمتن أخلاقهم؛ فهو ينشد الكمال الإنساني دائما، كما ينشد الكمال الإنشائي فيما ينظم ليملي معنيا باللغة التي كانت ركن العلوم في ذلك الزمان، بل كانت كل شيء؛ فيكثر من الغريب، ويرمز ويلمح، ويطابق ويجانس، ويطوي وينشر ويوري، ثم يعود إلى إيضاح ما أملى وشرحه، ويفذلك أخيرا آراءه لترسخ في الأذهان، أذهان مريديه الذين اعتقدوا أن عند الشيخ علم كل شيء لأنه ذاع عنه:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتعلم أنباء العلوم الصحائح
وقوله:
ما كان في الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أخبارهم طرف
ولذلك تعج أماليه بالتلميح، وتضطرم فيها نيران الثورة على الأديان جميعها؛ فكأنه جامعة دولية لا تخوم لها ولا حدود.
كان الإقبال عليه عظيما فاستحالت وحدته إلى مجتمع حي نابض بقوة الشباب وتفكيره الصاخب. وقد أشار أبو العلاء إلى مدرسته هذه بقوله:
يزورني الناس هذا أرضه يمن
Bilinmeyen sayfa