فلما بلغ القارئ هذا الكلام كبر السامعون وقال قاضيهم الجليل: حقا إن أمر سادتنا الفاطميين يدعو إلى التفكير والتأمل والتذكر؛ فما نصرهم إلا من الله، فأمن الشيوخ الآخرون على كلامه.
وكان الفتى - أبو العلاء - يسمع هذه الأحاديث وما يجول فيها من مناقشات ومذاكرات. ومذاكرات الرجال لقاح الألباب.
كان الفتى يفكر أكثر من أولئك الشيوخ. كان يقبع في زاوية من مجلس أبيه يسمع ويعي، ويظل في بحران مستمر، وينتظر تلك الساعات التي يعمر فيها المجلس، ويكثر فيها الجدل حول المذاهب المنتشرة انتشارا ذريعا، فتشعل عقله في وحدته، وتستبد بذهنه حتى تصبح منه كالفكرة الثابتة. إنه وجد في زمن سداه ولحمته الجدل، وخير كلمة تصف لنا ذلك العصر الحافل بالآراء المتضاربة هي التي كتبها الذهبي في حوادث سنة 982؛ أي حين كان أبو العلاء ابن تسع أو عشر، قال: «في هذا الزمان كانت الأهواء والبدع فاشية بمثل بغداد ومصر من الرفض والاعتزال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.»
وقال غيره: «سمعت أبا محمد بن أبي زيد الفقيه يسأل أبا عمر بن سعدى عند وصوله من بلاد المشرق إلى القيروان، فقال: هل حضرت مجالس أهل الكلام؟ قال: نعم، مرتين ولم أعد إليها. قال: ولماذا؟ فقال: أما أول مجلس حضرته فرأيت مجلسا قد جمع الفرق من السنة والشيعة والكفار واليهود والنصارى والدهرية والمجوس، ولكل فرقة رئيس يتكلم ويجادل عن مذهبه. فإذا جاء رئيس قاموا كلهم على أقدامهم حتى يجلس. فإذا تكاملوا قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج أحد بكتابه ولا بنبيه؛ فإننا لا نصدق ذلك ولا نعتد به، وإننا نتناظر بالعقل والقياس، فيقولون: نعم. ولما سمعت ذلك لم أعد.
ثم قيل لي: هذا مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم، فقطعت مجالس أهل الكلام.»
في هذا العصر وجد الفتى أبو العلاء، وكان بيت أبيه صورة مصغرة عن تلك المجالس، وإن لم تبلغ ما بلغته تلك المجالس التي حدثناك عنها، فكان الفتى يسمع تلك المشاحنات صغيرا، وكان يلفت سمعه شيخ من شيوخ مجلس أبيه حر التفكير أكثر من نظرائه، يدس كلامه دسا، ثم يتعوذ بالله متبرئا من ذلك الكلام وقائليه، فكان أبو العلاء يرتاح إلى كلامه ويتمنى لو يتاح له أن ينفرد به ساعة عندما يكون والده جالسا للمظالم، ليسأله عن قضايا تملأ دماغه، ولكن الأعمى غير مستطيع، فليصبر إذن حتى يأذن الله بذلك ...
وسأل الفتى أحدهم عن ذلك الشيخ فأجابه أنه عابر في البلد يختلف إليه بين آونة وأخرى، فتأوه وسكت.
وسمع الفتى الحديث الذي رووه عن «الإمام المنتظر» وفكر في ذاته لعله يكون هو ذاك الإمام، فأخذ يقلب كلامهم على جميع وجوهه، فوجد أن اسمه يواطئ تماما اسم رسول الله؛ فهو أحمد بن عبد الله، وضرب يده إلى أرنبة أنفه فما رأى أنفه أقنى، وأمر يده على جبهته فما وجدها كما وصفوا جبهة الإمام، فقال في نفسه: قاتل الله الجدري؛ فلو كان مستطيعا للبس قناعا كما فعل المتمهدي الكذاب ... وهناك عائق أعظم خطرا من كل هذا؛ فهو تنوخي من قضاعة، وقضاعة من قحطان. إذن فلينبذ الفكرة وإن كان لا بد من شيء فليكن غير هذا، فعدى عن هذه الفكرة وإن قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه ...»
بيد أن هذا الإمام المنظر قد أعجبه جدا، وترجى أن يظهر ويطهر الأرض التي يرى ما فيها من فساد، فمال إلى حيث يرتجي أن يبزغ الإمام المهدي، وأخذ يغذي شعره الصبياني بتلك الفكرة، ففات المتنبي في الغلو والإيغال، وارتحل بعدما فجع بموت أبيه إلى أنطاكية واللاذقية يطلب علم ما وراء الطبيعة، فعاد له منها عنصر جديد، فقال:
في اللاذقية ضجة
Bilinmeyen sayfa