69

بعد ثلاث سنوات اضطر طه لإجراء عملية، لم يكن إجراؤها خطيرا في الأساس، لكنها كانت على كل حال عملية في الزائدة الدودية التي التهبت وهددت بالخطر. وحل لي كل شيء طبيب عظيم آخر هو الصديق العزيز علي باشا إبراهيم، ببساطة لم تكن تفارقه. وتنضاف إلى هذه الذكرى العذبة المريحة ذكريات أخريات؛ فقد هرع مصطفى إلى المستشفى حاملا مظروفا (وقد استطعت لحسن الحظ أن أعلم طه بمضمونه بسرعة). وكان ثمة مظروف ثان، بل ثالث ... لا أذكر أسماء هؤلاء الأصدقاء المخلصين، وإني آسفة لذلك أشد الأسف. ولحظة الدخول إلى غرفة العمليات، عهد طه إلى مصطفى وإلى أخيه الشيخ أحمد في الوقت نفسه بامرأته وولديه. ولدى عودتنا إلى البيت، كان هناك خمسة أطفال: طفلانا وأطفال الرفاعي الثلاثة، منهمكين في وضع الزهور في جميع الأواني. وقد حمل المرصفي، الذي جاء معنا، حمل طه بين ذراعيه من العربة حتى السرير كما لو كان يحمل طفلا صغيرا. وكانت جان ماري الرفاعي تبكي وتضحك في آن واحد من تأثير الانفعال. ثم كانت المسيرة العاطفية التي قام بها الطلبة وموظفو الجامعة من أدناهم إلى أعلاهم، والذين سبق لهم أن جاءوا إلى المستشفى قلقين للاطمئنان عليه. كانوا يدخلون البيت بهدوء، وكان أكثرهم فقرا يصر على أن يحمل معه السجائر. كان كل ذلك في نظري في منتهى الرقة، بعد أن واجهنا الأيام المخيفة في السنة الماضية، كما كنت أرى في ذلك وعدا بمستقبل أكثر إشراقا.

ذلك أن الهزات التي سببها كتاب «الشعر الجاهلي» قد أساءت وضعنا من جديد. فالضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره نعرفها جميعا.

111

أما ما لا نعرفه فهو ما كانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى. لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه؛ كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعا بحماسة بلغت به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية ، لكن ما حدث له أرهقه. ولم يكن يفهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي جره إلى المحكمة بعد أن صادروا كتابه، والحملات القاسية في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر؛ كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرا. وقد قلق فعلا على الطفلين عندما أرادوا أن يحرموه من مورد رزقه (ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة!) ومع ذلك فقد احتمل كل شيء بصلابة ورأس مرفوع. وعندما أعلن رد الدعوى بعد ذلك بعدة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة، لم يقهر؛ ومن الممكن أن يظنه المرء حصينا، لكنه لم يكن إلا شجاعا رابط الجأش.

لم تكن حالات «التخلي» قليلة، مثلما أنها لن تكون قليلة أيضا في العاصفة القادمة التي ستهب في عام 1932. لكني لا أريد أن أتذكر سوى الأصدقاء الذين ظلوا بقربنا باستمرار. كنت قد أحببتك من قبل يا شيخ مصطفى، وأنت يا عبد العزيز فهمي ... ولكن منذ ...

لكي يتمكن طه من التغلب على مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحبته إلى فرنسا، إلى قرية صغيرة في السافوا العليا. وهناك كتب، خلال تسعة أيام، كتابه الذي يحمل اسم «الأيام» أو «كتاب الأيام». •••

عندما عدنا إلى مصر، عدنا لنواجه من جديد التآمر، ولننعم كذلك بالتعاطف الذي أراد البعض أن يعبروا عنه؛ قبل تلك الأزمة، كان لطه شعبيته. وأذكر أنني في حفلة لتوزيع الجوائز في الجامعة الأمريكية لاحظت أنه كان كثير من الناس يتطلع نحونا برغم أننا كنا - إذا جاز لي القول - من غير المرضي عنهم سياسيا، أعني ممن لا يرضى عنهم رجال الحكم، وأولئك الذين كانوا يخشون فقدان وظائفهم. وبرغم أن القصر كان معاديا لنا، كان الناس يتهامسون، وكان كثير منهم يقترب منا ويحيينا. لم يقاطع أحد دروسه العامة ومحاضراته، وكانت القاعة تمتلئ بالناس يوم كانت في الأزبكية.

وفي شهر أكتوبر من تلك السنة المقدرة طلب إليه أن يتحدث في جمعية الشبان المسيحيين، وكان لا بد من إغلاق قاعة المحاضرات قبل ربع ساعة من بدء المحاضرة؛ إذ لم يكن ثمة مكان خال، وكان الشباب يجلسون على النوافذ. وعندما انتهت المحاضرة، جذب أمين الجمعية طه إلى الغرفة المجاورة وأغلق عليه الباب بالمفتاح! ثم جعله يخرج بعد ذلك من باب آخر؛ فقد كان يخشى أن يخنقه الناس في غمرة التصفيق والعناق.

لم نتمكن من الذهاب إلى فرنسا في عام 1927، إلا أننا قضينا عدة أسابيع في لبنان. وفي صباح اليوم الذي كان علينا أن نبحر فيه عائدين على ظهر الباخرة «لامارتين» علمنا بوفاة سعد زغلول.

112

Bilinmeyen sayfa