59
لقد كانت لهذا الصغير - على الرغم من نحوله الفائق، والصعوبات التي كنا نلاقيها من أجل تغذيته - لحظات من المرح المجنون، شأنه شأن أبيه عندما كان يحمله بين ذراعيه. ولا أدري من أين كان يجيء هذا المرح الجميل للأب وللطفل معا. ذات يوم، بينما كنت أتناول الشاي مع آل محمود خليل
60
الذين كانوا يسكنون شارع قصر النيل، قلت لمدام محمود خليل كم كنت أجد بيتهم جميلا - ولقد كان كذلك حقا - فأجابتني بحزن: «كل هذا يمكن أن يشترى.» وعندما عدت إلى زهرتي الصغيرة وطفلي الحبيبين الرائعين، كنت أدرك كم كنت محظوظة.
كان هذان الطفلان كل فرحتنا؛ إذ إن الخصومة التي لاحقت طه زمنا طويلا كانت تتحول إلى عداوة عنيفة. فعلى الرغم من وعود الجامعة والصحيفة فقد بقي وضعنا المادي في منتهى السوء. ورمى طه، بعد أن أعياه ذلك، بتحديه «للجامعة الخسيسة». وبعد مماطلة ومضايقات ومساومات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قدرها أربعة جنيهات للأساتذة. وأغاظ هذا القرار جميع الأساتذة، ورفضوا هذه الصدقة، وتابعوا مطالبهم التي كانت تستقبل بلا مبالاة يشوبها قدر من الاستخفاف، وخاصة من قبل أولئك الذين كانوا جهلة ووصوليين في آن واحد. وانتهى الأمر بطه الذي اختير كممثل للأساتذة إلى أن يقول لرئيس الجامعة: «إن مجلسكم يقود الجامعة إلى الخراب؛ إننا سنقوضه، وربما الجامعة أيضا، ونحن معها؛ لكن الجامعة لن تبقى بين أيديكم.»
والحق أنني لم أكن آنذاك في صحة جيدة. وكان الطبيب حاسما عندما قال لي: «لا بد من ذهابك إلى فرنسا.»
كانت الصغيرة مصابة بفقر الدم، في حين أن أخاها كان يزن وهو في الشهر الثامن من عمره ستة كيلوجرامات. وبما أنه لم يكن مريضا بل كان عنيدا كأبيه، فقد كان يحدث أن يتمكن من الوقوف لمدة دقيقتين بين كرسيين، وكان هذا الجهد الهائل يمس شغاف القلب منا ويستثير أعصابنا. ونجري حساباتنا ونعيد إجراءها، وأخيرا اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها. وكنت أتخيل جيدا كل المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تماما، وكان ذكيا مستقيما طيب القلب، ولقد قمت بتنظيم الوجبات التي كان يؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه.
كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنت أشكو باستمرار متوقعة تراجع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبل بل طالب بسفري من أجل صحة زوجته وطفليه، تاركا بذلك نفسه لوحدة أكثر شناعة بالنسبة له بمائة مرة منها بالنسبة إلى إنسان آخر غيره. وكنت أشعر أني في الوقت نفسه عظيمة الثراء؛ فكل ما يستطيع القلب البشري أن يمنحه من الحنان المحض كان قد منحنا إياه.
كنا، خلال هذه الأشهر الثلاثة،
61
Bilinmeyen sayfa