وتعرفت على حموي، وكانا يعيشان في كوم أمبو قريبا من أسوان، وقد استقبلاني بحرارة. وبعد تبادل التحيات التقليدية مع الزائرين المجاملين والفضوليين، قال عمي لابنه: «سأخرج مع زوجتك؛ فلا تنشغل بنا.» تناول ذراعي، وقمنا معا بجولة في البلدة. لن يبدو أمرا خارقا لشباب اليوم أن يتنزه شيخ وقور معمم مع امرأة شابة سافرة، أجنبية ومسيحية، تعتمر القبعة! لكنه كان كذلك في تلك الحقبة. ولم أنس هذه اللفتة على الإطلاق. عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي لا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب. هذا الرجل، الذي كان ذا مهنة بسيطة ولا شك، لكنها تتيح للأسرة حياة كريمة، والذي كان يحب القراءة والحوار مع الوجهاء، وكان يتميز بميزة طبيعية أدهشتني؛ فقد كانت عيناه الزرقاوان تتألقان بدهاء محبب، ولم أدهش للاحترام الذي كان يلقاه في القرية. أما حماتي، فقد انصرفت بكليتها لتأمين راحتي وراحة طفلتي الصغيرة. كانت الحوالة المالية التي أرسلها والد طه هي التي سمحت لنا بشراء عربة للطفلة. كان طه يحدثني عن أبويه بحنان، وقد عرفت أن أمه تكسر أربعين بيضة لصنع عجة البيض العائلية، وأن أهله في العيد الكبير - عيد الأضحى
54 - كانوا يشترون عجلا وخروفا: الخروف للبيت، والعجل لتوزيعه على الفقراء. هل كان بوسعي أن أتخيل أن حماتي - وهي المسلمة المتدينة - يمكن أن تسأل طه عن أي نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلي؟ لقد أجبت بأنني لا أشرب الخمر على الإطلاق، ولقد كنت في منتهى التأثر من هذا الاهتمام الودي الذي أحطت به.
وبعد عودتنا للقاهرة بفترة قصيرة، تلقيت آلة خياطة سنجر؛ وكان ذلك في الريف البعيد أجمل هدية يمكن أن تقدم للعروس ... كما تلقيت أيضا سجادتين عجميتين، أخذتا ولا شك من بين سجاد البيت، إحداهما صغيرة، مربعة الشكل تقريبا كانت تروق لي كثيرا، والأخرى أكبر منها بقليل.
ويسعد طه عندما يتلقى من فرنسا كتابا كان قد طلبه، وهو عبارة عن بحث «لجيرار
Girard » حول «توسيديد
Thucydide ». أكتب ذلك والكآبة تغمرني متسائلة عما إذا كان هذا النص والنصوص الأخرى التي ألقيت في الجامعة لا تزال في المكتب العزيز في «رامتان».
وفي اليوم الأخير من السنة كان على الطاولة كومة من الكتب الجديدة؛ الجزء الأول من كتاب طه عن المسرح اليوناني الذي صدر أخيرا بعد مصاعب عديدة. وقد وزعت أكثر من مائة نسخة من الكتاب في الصباح، وكان لا بد من النضال ضد الاستغلال المخجل للناشرين، وإن كان بغير نجاح. لا يهم؛ ذلك أن الكتاب قد استقبل استقبالا ممتازا. أما ترجمة دستور «الأثينيين» فقد كانت تتقدم بسرعة، ولم يكن قد بقي سوى إنجاز الهوامش والتعليقات.
مع قدوم 1921 بدأت بالمشاركة في حياة مصر السياسية التي احتلت حيزا كبيرا في حياة طه. كنت قد تعرفت في باريس، في عام 1919، على اثنين من أعضاء الوفد المصري كانا صديقين لطه يكبرانه بكثير: لطفي السيد وعبد العزيز فهمي.
55
فقد جاءا لزيارتنا، وقدمنا لهما ابنتنا الصغيرة التي لم تكن قد تجاوزت من العمر عدة أشهر، إلا أنها عندما رأت هذين الوجهين الغريبين، أخذت في البكاء بطريقة فظة. وما زلت أذكر وجه عبد العزيز باشا المفعم طيبة وهو يؤنبها مازحا: «اسكتي يا أفريقية!»
Bilinmeyen sayfa