وكان أمنكارع مع كبر سنه لا يتخلف يوما عن دروسه، ولم يبد عليه يوما ما يدل على فتور أو ملال، بل كان دائما يفيض بالبشر والنشاط.
وكان من تلاميذه الأعزاء في حصن طيبة أبناء ملوك كثيرين من كل جهات الأرض، فمنهم من جاء من بلاد الخيتا في الشمال، ومنهم من أتى من أقصى بلاد كوش في الجنوب، ومنهم أمراء من أبناء ملوك النهرين في الشرق ورؤساء ليبيا في الغرب. ولكن أحبهم إليه كان «دوشري» ابن ملك المتاني على حدود سوريا الشمالية، وهو من أكثر تلاميذه حبا له وإعجابا به، لا يكاد يفارقه إلا عندما يغادر الحصن عائدا إلى بيته قبل حلول المساء.
وكان الشيخ أمنكارع إذا خرج من معهد الحصن ذهب إلى بيته الصغير على شاطئ النيل ليقضي سائر يومه مع ابنته الوحيدة الباقية له في الحياة نفرتويا ذات الشعر الأسود وأجمل فتاة في طيبة. ولم يكن له في الحياة غيرها، وقد جمع فيها كل ما بقي له من الآمال، بعد أن غادره أبناؤه جميعا وبعد أن سبقه الأصدقاء والأحباب إلى جوار «أوزيريس».
ولكن الشيخ كان يخرج في بعض الأيام للنزهة في الأرياف المحيطة بالمدينة، أو إلى الصحراء الفسيحة ذات الرمال الذهبية في أيام الشتاء، ويستصحب في هذه النزهات تلميذه العزيز دوشري مع ابنته نفرتويا ويقضون الوقت بين تأمل مناظر الطبيعة وبين مدارسة أسرار الفن والحكمة، فإذا تعب الشيخ من السير الطويل جلس ليستريح عند جانب النهر أو ليتمدد على الرمال الناعمة، وينطلق دوشري ونفرتويا في جولتهما الطويلة ثم يعودان إليه بعد أن يكون كل منهما قد رسم أجمل ما وقع عليه بصره من صور الطير والنبات أو مناظر النهر والصحراء. وقد تعود أهل طيبة أن يروا الشيخ مع ابنته وتلميذه حتى صار من المألوف عندهم أن يقرنوا بين اسم نفرتويا ودوشري، وأطلقوا عليهما اسم «إيزيس» و«أزوريس»؛ لأنهما كانا مثالين للجمال والوداعة والكمال.
ولكن بنات الأعيان في طيبة كن يتحدثن دائما عن نفرتويا في سخرية؛ لأنها لم تكن من بنات الأمراء أو الأعيان، فهي ابنة فنان صانع تماثيل، وإن كان فرعون يقربه ويثق فيه ويجعله أستاذا لأبناء الأمراء. وكثيرا ما دفعتهن الغيرة إلى إنكار نبوغ أمنكارع والبخس من عظمة فنه. كما كن يوجهن أشد اللوم إلى الأمير دوشري؛ لأنه تنازل حتى اختار فتاة مثل نفرتويا ولم يلتفت إلى واحدة من بنات كبار الموظفين أو الأمراء أو سدنة المعابد.
ولكن دوشري ونفرتويا كانا لا يعيران التفاتا إلى هذه السخرية التي كانت تصل أحيانا إلى سمعهما؛ لأنهما كانا سعيدين وحدهما في عالمهما الصغير مع الشيخ العزيز، ولا يعبآن بقصور طيبة ولا بمن يمرح فيها.
ولكن الأميرة الملكية «تادوخيبا»، زوج ولي العهد وابنة ملك المتاني وأخت دوشري، كانت تنظر إلى هذه الصداقة بين أخيها وبين نفرتويا في كثير من القلق. حقا إنها كانت تعجب بالفتاة وتجل الشيخ العالم الفنان أمنكارع، ولكنها لم تنس أن أخاها أمير ملكي، وأنه وارث عرش «المتاني»، ولا ينبغي له أن يختار عروسه إلا من قصور الملوك. ولماذا لا يلتفت دوشري إلى إحدى بنات فرعون أو إحدى بنات الأسرة الملكية على الأقل؟ فكانت كلما رأت الصداقة تتوثق بين أخيها والفتاة زادت خشية وتوجسا من أن ينتهي الأمر بينهما إلى الكارثة، وأي كارثة أشد من أن يتزوج الأمير من إحدى بنات الشعب وإن كانت تلك الفتاة نفرتويا؟ ولم تستطع آخر الأمر أن تمتنع عن إظهار مخاوفها لزوجها ولي العهد واستأذنته أن تفاتح في الأمر فرعون العظيم نفسه حتى يحول بين الفتاة وبين دوشري. ولكن ولي العهد لم يوافق الأميرة تادوخيبا، بل إنه صارحها بأنه يفضل نفرتويا على كل بنات الأمراء اللاتي يعرفهن جميعا، وحاول أن يبين لها أن سعادة الشاب تتوقف على اختيار قلبه، وأطال في التحدث عن فضائل نفرتويا. فلما لم تقدر تادوخيبا على إقناع زوجها ولي العهد برجاحة رأيها، ذهبت إلى فرعون نفسه لتضرع إليه أن يساعدها.
وكان اليوم الذي توجهت فيه إلى فرعون من أيام الخريف الجميلة، والمدينة تستعد للاحتفال بفتح السد الذي يفصل بين النيل وبين البحيرة الكبرى في القصر الغربي.
كان يوما من أحلى أيام الخريف وأصفاها سماء وأرقها نسيما وقد أخذت طيبة كل زينتها استعدادا للعيد الذي اعتادت أن تحتفل فيه كل عام بتدفق الماء إلى البحيرة. كانت السفن في ميناء النهر ترفع الأعلام الملونة، وقد انتشر النوتية فوق الساحل يغنون ويشربون الجعة ويرقصون، وهم من ألوان مختلفة جاءوا من جميع أطراف الأرض ليحملوا خيرات بلادهم إلى عاصمة فرعون. كان فيهم نوتية من أهل فينيقية بشعورهم المضفورة ولحاهم الطويلة، وبشرتهم البيضاء وعيونهم السوداء. وفيهم بحارة من جزائر البحار الشمالية من الشردن والشكلش وأهل قبرص ورودس، وهم لا يسترون أبدانهم إلا بقطع من الجلد تتدلى من أعناقهم إلى ظهورهم وصدورهم. وأما بحارة كوش فكانوا يلفون أرهاطا حول أوساطهم من جلود النمور ويرقصون في حلقات صاخبة لا يعبئون بضحكات الجمع الملتف حولهم. وخرجت طيبة كلها منذ الصباح في زينة الاحتفال الأنيق، الرجال في ملابسهم الكتانية البيضاء ونعالهم الملونة وشعورهم المستعارة التي تتدلى على أكتافهم، والنساء في ملابسهم المزركشة بالألوان تصف محاسن أجسامهن الدقيقة. وتزاحمت الجموع على الشاطئ تتنافس على القوارب للعبور إلى البر الغربي لكي تدرك الاحتفال منذ الصباح، حتى لا يفوتها منظر فرعون وهو يقطع السد بيده المجيدة، وينزل في القارب الذهبي إلى البحيرة العظيمة مع ماء الفيضان الأحمر.
وخرج أمنكارع في ذلك اليوم مع نفرتويا ودوشري لمشاهدة مناظر العيد، فاستقلوا قاربا ملكيا وضعت حوله الحشايا فوق الطنافس الوثيرة، وبلغوا الشاطئ الغربي قبل أن يصل موكب فرعون. وكانت البحيرة صافية اللون مثل البلور تحيط بها أشجار الجميز والحور والصفصاف والسنط ذي الزهرة الصفراء الفاتنة. ومالت نفرتويا على فرع فاقتطفت منه زهرتين صغيرتين وضعت إحداهما على صدرها والأخرى على صدر دوشري.
Bilinmeyen sayfa