59

وخرج من الحصن صبية يمرحون في صباح ذلك اليوم الوديع، بعد أن حبسهم الشتاء في حصنهم الحصين شهورا طويلة، كانت فيها تلك المروج هادئة في سبات يشبه الموت، تحت أكداس من الثلوج تعصف عليها زعازع الزمهرير.

كان ذلك في أرض السغد فيما وراء سمرقند، وقد وطئتها أقدام فرسان العرب منذ سنوات قليلة مع قائدهم الشاب قتيبة بن مسلم الباهلي القيسي.

ومشت بين الصبية امرأة فارعة بيضاء، واسعة العينين، سوداء الشعر، تتنفس سحرا وكبرا ونبلا، وعليها حلة من الحرير الأبيض ووشاح رقيق تزينه نقوش زاهية تحاكي ألوان زهور المرج. وكان حول خصرها الدقيق منطقة زرقاء من نسيج رقيق عقدت فيها عقدة دلت أطرافها على جانب حلتها.

وسارت عاتكة تنقل طرفها فيما حولها ولا ترى إلا صورة زوجها الحبيب هلال التميمي، ذلك الفتى الفارس الذي قتل منذ عامين وترك لها طفلها الصغير الذي يمرح مع الصبية حولها. وكانت بين حين وحين تتنبه من حلمها فتنظر إلى الصبية في لعبهم فتبتسم لهم ابتسامة عطف ثم تعود إلى خيالها لتناجي صورة الزوج الذي نشأ معها في أودية قومها بني تميم حتى زفت إليه على حب نبيل، ولكنها لم تتمتع بالحياة معه إلا ريثما درج ولدهما بينهما. ولما نزعته الحرب منها لم تبد لموته جزعا، وكتمت حزنها في أعماق قلبها، والتمست العزاء في خلواتها مع صورته في الخيال، وفي نظراتها إلى الصبي الصغير الذي خلفه من ورائه معها.

ولما بلغ الصبية مرعى الخيل أقبل ولدها يجري نحوها، وقد علق على كتفه قوسا صغيرة ودلى في منطقته كنانة سهام من جريد النخيل، وقال لها في حماسة: ألا أركب قليلا يا أمه؟

فمالت عاتكة عليه فرفعته بين ذراعيها وقبلته قبلة سريعة وهو يقاوم ويرفس ويصرخ حتى وضعته على الأرض فتخلص من يديها ووثب جاريا وصاح بها: أدركيني إذا استطعت، فإني سابق إلى الخيل.

فأسرعت المرأة وراء ولدها وصاحت به: ألا تخشى السقطة يا عمير؟

فضحك الفتى في مرح وقال وهو يمسك بقوسه: لا أخشى السقطة يا أمه. ألست عمير بن هلال؟

واتجه نحو فرس بيضاء كانت أدنى الخيل إليه، فأسرعت أمه حتى أدركته ومسحت بيدها على رأسه في رفق وقالت مبتسمة: تعال معي يا عمير سنركب جميعا.

ثم ذهبت معه إلى الفرس البيضاء فنادتها كأنها تنادي بعض أهلها فأقبلت الفرس نحوها، ورفعت المرأة ولدها فأركبته، ثم قصدت إلى فرس أحمر قريب منها وقفزت فوق ظهره خفيفة كأنها فارس من فرسان الحروب، ومسحت بكفها عنق الفرس فصهل صهيلا خفيفا ثم سار يثب هادئا، وسارت فرس الصبي إلى جواره تحاكي وثباته. ولكن الصبي لم يرض بذلك السير المطمئن فوخز فرسه بقدميه الصغيرتين، ومال على عنقها قابضا على شعر معرفتها، وصاح بها يحثها على الإسراع، فاندفعت به الفرس مسرعة، وصاحت عاتكة بولدها: على مهلك يا عمير! فما ينبغي لنا أن نبعد.

Bilinmeyen sayfa