ونهض متكلفا النشاط حتى لا يثير فضول رئيس القصر، ولم يلبث أن استعاد مرحه عندما صار بين أصحابه في حلقة السمر بعد أن فرغوا من العشاء. ولما عاد إلى مخدعه بعد أن مضى صدر الليل كانت كل الظلال قد انقشعت من قلبه كأن لم يعكر صفاءه شيء في ذلك النهار.
ولكن الصباح التالي حمل إليه نبأ كان أشد عليه من كل ما مر به من القلق والوساوس، فقد جاء إليه قائد الحصن في الصباح ليبلغه أمر فرعون أن يسافر إلى «أون» في ذلك اليوم نفسه ليتم دراسته في معهدها العظيم بعد أن نال بغيته من الدراسة في حصن طيبة، وكان عليه أن يأخذ أهبته للسفر من ساعته بغير إبطاء.
وأظلمت الدنيا في عينيه وتهالك على كرسيه ولم يجب بكلمة.
وثارت في نفسه غضبة شديدة لذلك الأمر المفاجئ، ولكنه تذكر أنه أمر فرعون، ولا حيلة لأحد فيما يأمر به فرعون. وجاهد أن يمنع نفسه من البكاء لشدة شعوره بالعجز أمام الإرادة التي لا تقاوم، وذهب صامتا ليستعد للسفر في المساء.
ولما أقبل المساء كانت السفينة في انتظاره تحت أسوار الحصن فصعد إليها بغير أن ينظر إلى الوراء، وبادر فمسح الدمعة التي فرت من عينيه، ثم ذهب إلى مؤخرة السفينة واتجه ببصره نحو بيت أستاذه حيث تقيم نفرتويا. ولما اختفت طيبة عن عينيه وراء ثنية النهر ارتمى في موضعه وأسلم نفسه للبكاء.
وأخفى أمنكارع عن ابنته سر الحديث الذي دار بينه وبين فرعون يوم احتفال الخريف، ذلك الحديث الذي أمره فيه أن يقطع الصلة التي ما كان لها أن تجمع بين دوشري الأمير الملكي وبين فتاة من عامة الشعب، وإن تكن نفرتويا الحسناء وابنة الشيخ المبجل أمنكارع. ولكنه لم يستطع أن يخفي عن نفسه ألم الطعنة ومرارة الإهانة. لقد بلغت تلك الطعنة من الشدة أنه كاد يندفع إلى الرد عن أمنحتب العظيم قائلا له: إن القلوب لا تعرف الفروق التي يقيمها المتكبرون. ولكنه لم يجرؤ أن يخاطب ابن الآلهة إلا قائلا: سمعا وطاعة يا مولاي. وخطر له عندما سمع أمر فرعون أن يقول له: «إنك أنت يا صاحب الجلالة تزوجت من إحدى بنات الشعب عندما أحببت الملكة تي الحسناء!» ولكن الكلمات تعثرت في حلقه قبل أن ينطق بحرف من حروفها. ومهما يكن من الأمر فإن غضب أمنكارع وشدة وقع الإهانة عليه لم يكونا شيئا إلى جانب الكارثة التي ألمت به عندما رأى ابنته تذبل وتفقد سعادتها بعد أن فارقها دوشري.
ومرت الأيام بطيئة، ولكنها توالت مظلمة حزينة، وكانت نفرتويا لا تنطق باسم دوشري تسأل أباها عنه أين غاب ولم غاب. قضت أيامها صامتة هادئة وديعة كأنها لم تفقد شيئا ولم تجزع من شيء، كالزهرة المفردة التي تتفتح وحدها في الصحراء ذات صباح ثم يتبدد عبيرها وألوانها الزاهية في وحشة الفقر. ولم يلحظ أمنكارع أن ابنته تذبل وتفقد نضرتها يوما بعد يوم حتى رآها ذات يوم وقد أصبحت ذاوية.
وجلس دوشري في أون على سور معبد الشمس الشاهق ينظر إلى الشمس وهي تهبط إلى أفق الغرب. وكانت الأرض تمتد تحت عينيه مثل صفحة مرآة لا يقطع سطحها سوى نقط منثورة من آجام النخيل. وكان السكون يخيم على الكون وماء الفيضان يغمر الحقول إلى آخر ما تصل إليه العين. وكان الهواء ساكنا في ذلك الوقت من شهر مسرى الحزين، كما كان قلب دوشري. لم يكن له في معبد الشمس صديق كما لم يكن له في أون كلها أليف، وأحس بأنه قد أصبح وحيدا غريبا في بلاد بعيدة غريبة، لا يؤنسه شيء في ذلك الفضاء الفارغ الرهيب الذي كان يحيط به. وعادت إليه وهو جالس هناك ذكريات جولاته مع نفرتويا في أرياف طيبة وعلى ضفاف نيلها وفوق أمواجه الوديعة. كان كل شيء هناك ينبض بالحياة والأمل، حتى تلك التماثيل الرابضة على جانبي الطرق، إذ كان الشيخ أمنكارع يبعث فيها الحياة كلما تحدث عنها. فأين تلك الحياة المليئة في طيبة من حياته في معبد الشمس الشاهق في مدينة أون العظمى، التي لم تكن في نظره سوى سجن مظلم. وخطر له أن يتسلل من المعبد حتى يصل إلى النهر فيلتمس قاربا يصعد فيه إلى طيبة مرة أخرى، ليستعيد أنفاسه الحارة وصدره المبتهج ونفسه المرحة. ولكن كيف يقدر على التسلل من المعبد الضخم الذي توصد عليه الأبواب المتينة ويحيط به الحراس في الصباح والمساء؟
وفيما كان جالسا هناك تتنازعه أشجانه الثائرة جاء إليه كاهن يحمل إليه رسالة من أخته تادوخيبا، وهي أول رسالة تلقاها منذ فارق طيبة في أول الخريف. وفتح الرسالة بقلب مضطرب، وكانت لفافة من البردي عقد عليها شريط من الكتان الأنيق. ولأول مرة في حياته تمنى لو كان له جناح فيطير به ساعة حتى يبلغ طيبة ليرى نفرتويا؛ لأن الرسالة أنبأته بأنها مريضة وتريد أن تراه قبل أن تبدأ رحلتها الأخيرة إلى عالم أوزيريس! لم يدر ماذا يستطيع أن يفعل ولا ماذا يستطيع أن يقول، فلم يكن أمامه إلا أن يصبر نفسه حتى تحمله السفينة كما تشاء لها رياح الخريف الفاترة. وسافر من ليلته نحو الجنوب بقلب واجف وعين دامعة وصدر كئيب.
وهناك في طيبة ذهب إلى بيت الشيخ أمنكارع آخر الأمر، ولكن الدار كانت خالية. وكان الشيخ بعيدا في الجانب الغربي لا يقيم في المدينة منذ فارقته نفرتويا في رحلتها الأبدية. وأسرع دوشري إلى الغرب حتى رأى الشيخ وكان عاكفا على جدران المقبرة التي يعدها لابنته لتكون مثوى لجسدها بعد أن يتم الكهنة تحنيطها. كان الشيخ يطمع أن تقف نفرتويا على مقبرته مع دوشري يقدمان القرابين من أجل سلامة روحه في عالم الظلام، ولكن الأقدار قست عليه مرة أخرى ونزعت منه أمله الأخير.
Bilinmeyen sayfa