الفصل الثامن
وقد طويت كتب الشيخ فيما طويت، وأسلمتها فيما أسلمت إلى السفر الذي أسلمت إليه نفسي، فكانت قريبة مني بعيدة عني، تلزمني لزوم الظل، وتنأى عني نأي النجوم، لا أنتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا سألت عنها، وتبينت مكانها، واطمأننت إلى أن ليس عليها بأس. ولكني مع ذلك قد تعرض لي الحاجة إليها فلا أبلغها، ولا أجد لي عليها سبيلا، وإنما هي طوع أيدي هؤلاء الذين يتصرفون فينا وفي أمتعتنا حين نسلم أنفسنا وأمتعتنا إلى الأسفار.
وقد كانت رحلتي إلى باريس طويلة جميلة لم تخل من مشقة وجهد، ولم تبرأ من ثقل وعنف، وكانت مع ذلك مختلفة متنوعة لا مستقيمة مضطردة، فقد مضيت أنحدر من الجبل وأصعد فيه، وأرقى من السهل وأهبط إليه، وتدور بي سفينة في البحيرة تلم بهذه القرية من قرى فرنسا، وبتلك المدينة من مدن سويسرا، وتكثر حولي الأحاديث في مظاهر الطبيعة ومناظرها، وفي شئون الناس وأطوارهم، وفي أنباء الحرب التي كانت تتراءى، والسلم التي كانت تتناءى، ثم أتهيأ في آخر النهار وأول الليل لركوب القطار من غد إلى باريس، فأشتري لهذه الرحلة كتابا سخيفا فيه قصص سخيف أريد أن أستعينه على هذا اليوم الطويل يوم القطار.
ويمضي بنا القطار من الغد، وما أدري أيهما كان أسرع من صاحبه أهو القطار الذي كان ينهب الأرض نهبا؟ أم هو صاحبي الذي كان ينهب الكتاب نهبا؟ ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أني منذ ودعت الشيخ وطويت كتبه، وأسلمت نفسي إلى الرحيل، وخيلت إلى نفسي أني سأفارقه، ومنيت نفسي بلقائه والعودة إليه، لم أفارقه ولم أنصرف عنه، أو قل لم تفارقني ذكراه، ولم تنصرف عني على كثرة ما بذلت من الجهد لأخلص لنفسي وأسرتي أياما. وإنما لزمتني ذكرى الشيخ لزوما متصلا ملحا، صرفني عن نفسي وعن أسرتي، واضطرني إلى أن أكون طليقا سجينا، وحرا مقيدا، أتنقل في الجبال والسهول، ولكني مع ذلك لا أفارق هذا السجن الذي أقام فيه أبو العلاء نصف قرن يفكر ويقدر، وينظم وينثر، ويملي ويعلم.
وأنا ألحظ نفسه وهي تفكر، وأسمع صوته وهو يملي وينشد، وأسأل نفسي عما تحصل من هذا كله فلا أظفر منها إلا بهذا الجواب الغريب، وهو أنها لا تحصل شيئا، ولا تريد أن تحصل شيئا؛ وإنما قصاراها أن تشهد وتسمع وتجد اللذة في أن تشهد وتسمع، ولا عليها أن تعود آخر الأمر، وكأنها لم تشهد شيئا، ولم تسمع شيئا، فإن هذه اللذة التي تجدها خليقة أن تغنيها عن كل تحصيل، وأن تدفعها إلى أن تلح في الاستماع للشيخ حين يقول، وفي الاستماع لنفسه حين تجيل في ضميرها ما تجيل من الخواطر والآراء.
وما أدري أكانت المصادفة هي التي تسمعني إنشاد الشيخ قصائد بعينها من اللزوميات؛ لأني أحببتها وكلفت بها، أم كان هناك تدبير خفي لا أعرف كنهه، ولا أبلغ سره، أراد أن ينصف الشيخ مني، وأن يضطرني إلى الوفاء بما قدمت من وعد، وإلى الاعتراف بأن الشيخ إن أذعن للقافية وخضع لسلطانها، وأطاعها في تفكيره وتقديره وتدبيره لشعر اللزوميات، فقد يسيطر على القافية أحيانا ويقهرها، ويرتفع بفنه وفكره على ضروراتها وقيودها دون أن يخرجه ذلك عما رسم لنفسه من خطة، وما فرض على نفسه من شرط، فهو يلتزم ما لا يلزم، ولكنه لا يجد في ذلك شدة ولا جهدا، ولا يحس في ذلك قسوة ولا عنفا، ولا يضطر في ذلك إلى أن ينحرف بلفظه أو معناه عن الطريق الطبيعية الواضحة المستقيمة التي ينبغي أن يسلكها بهما، سواء أفرض على نفسه قيود اللزوميات أم لم يفرضها.
وقد ترددت في نفسي هذه الفكرة التي أومن بها، وأترك لغيري أو لنفسي في غير هذا الوقت، وفي غير هذا الموضع تحقيقها وبسط القول فيها. وهي أن الفن الرفيع قيد حر إن صح هذا التعبير، فهو يفرض على صاحبه أثقالا وأغلالا لا يستطيع أن يخلص منها دون أن يفسد فنه إفسادا، وينحرف به عن طريقه المستقيمة المقسومة له. ولكنه مع ذلك لا يكاد ينهض بأثقال هذا الفن وأعبائه، إن كان ميسرا له غير متكلف فيه؛ حتى تستقيم له الأمور، وتمتد له الأسباب، وترخى له الأعنة. وإذا هو يمضي بفنه حيث يشاء، أو يمضي في فنه حيث يشاء، لا يثقله قيد، ولا يرهقه غل، ولا يضيق به سجن، وإنما هو مطلق كأعظم الناس حظا من الحرية، سمح النفس في كل ما يأتي وما يدع. يخيل إلى من يرقبه، وهو يصطنع فنه ويتصرف فيه أنه قد أرسل نفسه على سجيتها وأمضاها على طبعها، فهو لا يتكلف مشقة، ولا يلقى جهدا. قل: إن مصدر ذلك هي العادة، وكثرة المران، أو قل: إن مصدر ذلك هي الفطرة، وخصب الطبيعة، واعتدال المزاج. قل ما شئت من ذلك ومن غير ذلك، ولكن ثق بأن أبا العلاء يظفر بحريته المطلقة في اللزوميات على ثقل ما فرض على نفسه من قيد وتعقد ما سلكها فيه من غل. يظفر بحريته في اللفظ، ويظفر بحريته في المعنى، ويظفر بحريته في الأسلوب؛ والغريب أنه يشركك معه في هذه الحرية، ويلغي من نفسك الشعور بالضيق الذي كنت تجده حين تلتزم معه ما التزم من الشروط والقيود.
فأنت ضيق الصدر من غير شك بهذه القيود التي يأخذك الشاعر بها؛ لأنه أخذ بها نفسه، وأي غرابة في ذلك أنه يصحبك ويهديك في هذه الطريق التي يسلكها، والتي فرض على نفسه ما يكون فيها من عوج والتواء، وما يقوم فيها من صعاب وعقاب، فأنت واجد من الجهد مثل ما يجد، وأنت لاق من العنف مثل ما يلقى، وأنت محتمل من الضيق مثل ما يحتمل. فإذا نفس عن صدره فقد نفس عن صدرك، وإذا رفه على نفسه فقد رفه على نفسك، وإذا تخفف من قيوده وأغلاله دون أن يضعها عن نفسه فقد خفف عنك هذه القيود والأغلال دون أن يضعها عنك.
أنت إذن شريكه فيما يجد من مشقة، وأنت شريكه فيما يجد من لين، أنت مقيد إن كان هو مقيدا، وأنت مطلق إن كان هو مطلقا.
وعلى هذا النحو وحده فيما أظن يفهم الأثر الفني ويذاق، فأعجب لأبي العلاء الذي يضيق أحيانا بنظم اللزوميات، فإذا ألفاظه مستعصية، وإذا أساليبه ملتوية، وإذا أنت تشقى معه بهذا الالتواء وذلك الاستعصاء، والذي ينهض أحيانا أخرى بقيوده وأغلاله، وبأعبائه وأثقاله، فيضطرب في جو الفن رشيقا خفيفا كأنه لا يحمل شيئا، ولا يشقى بشيء، وإذا أنت تنهض معه رشيقا خفيفا كأنك لا تحمل شيئا، ولا تشقى بشيء.
Bilinmeyen sayfa