كان كل منهما متشائما، ولكن تشاؤم أحدهما انتهى به إلى العهارة والفجور والإباحة؛ وتشاؤم أحدهما الآخر انتهى به إلى الطهر والبر والنسك والتحرج. أكان مصدر هذا الخلاف البيئة التي عاش فيها كل من الشاعرين؟ فقد عاش بشار في بيئة زندقة ومجون؛ وعاش أبو العلاء في بيئة تحفظ واحتشام وورع، أكان مصدر ذلك الأسرة؟ فقد انحدر بشار من أسرة فارسية خضعت للرق؛ وانحدر أبو العلاء من أسرة عربية لم تعرف إلا العزة والحرية، أكان مصدر ذلك العصر السياسي؟ فقد عاش بشار في عصر ثورة لم تتناول السياسة وحدها، بل تناولت الأخلاق والدين ونظام الاجتماع؛ وعاش أبو العلاء في عصر مهما تفسد فيه الحياة فقد كان فيه استقرار ما للعرف الخلقي والاجتماعي، أم كان مصدر هذا كله ما قدمناه وغير ما قدمناه؟
وشيء آخر يظهر أنه أساسي، وهو أن بشارا كان إنسي الولادة والغريزة؛ وأن أبا العلاء كان إنسي الولادة وحشي الغريزة؟ فنشأ أولهما، ولا حظ له من حياء؛ ونشأ ثانيهما والحياء أظهر صفاته، وأعظم خصاله سلطانا عليه، ونشأ أولهما ولا سلطان له على غرائزه، وإنما لغرائزه على نفسه وجسمه السلطان كله؛ ونشأ ثانيهما ولا سلطان لغرائزه عليه، وإنما عقله هو المسيطر على نفسه وجسمه جميعا، ونشأ أولهما يمتدح بآفته جهرا؛ ونشأ ثانيهما لا يذكر هذه الآفة إلا كارها، فإذا تحدث عنها قال إنها عورة يجب أن تستر، ونشأ أولهما لا يعرف التستر بمباح ولا بمحظور، لا يتحرج أن يظهر سوأته للناس، ويرضي أخس غرائزه بين أيديهم فضلا عن معاقرة الخمر، وتتبع النساء، والتعرض في ذلك لما يخزي ويسوء؛ ونشأ ثانيهما لا يحب الجهر بشيء لا حظ له من محظور عليه، فإذا ألم بأيسر ما يباح له وهو الطعام ألم به سرا وعلى استخفاء، ونشأ أولهما محبا للمال، متهالكا عليه يطلبه من وجهه ومن غير وجهه، ويحصل عليه بالمدح، فإن أعياه ذلك حصل عليه بالهجاء، ونشأ ثانيهما والمال أبغض الأشياء إليه، وأهونها عليه، لا يطلبه بمدح ولا بهجاء، ولا يسعى إليه من وجه، ولا من غير وجه، يتاح له منه ما يقيم الأود، فيقسمه مناصفة بينه وبين خادمه، ولو استطاع لما أصاب منه شيئا، ونشأ أولهما عدوا للناس، مسيئا إليهم، مستطيلا عليهم إلا أن تكون لهم القوة، ويتاح لهم الاستعلاء، فهناك يذل ويستكين، ويظهر من الذلة والاستكانة ما يستحي منه أهون الناس شأنا وأقلهم خطرا؛ ونشأ ثانيهما محبا للناس أشد الحب، رفيقا بهم أعظم الرفق، يغلظ لهم قوله، ويرق لهم قلبه، يعنف عليهم في اللفظ، وينصح لهم في دخيلة النفس وأعماق الضمير، لا يريد بهم شرا، ولا ينتظر منهم خيرا، يقدم إليهم المعروف ما قدر عليه، ولا ينتظر منهم شكرا، بل لا يرى أنه يستحق منهم شكرا. شفع لقومه عند صالح، فلما نجحت شفاعته عاد وهو ينشد:
نجى المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل
ثم لم يقصر حبه على الناس، وإنما تجاوزهم به إلى الحيوان، فكف عنه أذاه، وود لو يستطيع أن يكف عنه أذى الناس. وعلى الجملة لم يشعر بشار بسجنه الفلسفي في وقت من الأوقات مع أنه حاول الفلسفة واتخذها له صناعة دهرا، ثم انصرف عنها ولم يحفل بها، وإنما حفل بأهوائه ولذاته ليس غير، عاش حرا طليقا ما وسعته الحرية، وما أرسل له العنان، وما زال في شهواته ولذاته وأهواء نفسه حتى انتهى به الشوط إلى بعض مفترق الطرق، وإذا الموت ينتظره فيبطش به بطشا عنيفا فيمضي، وقد كان الناس في حياته يؤثرونه بالبر خوفا منه وإشفاقا، فإذا هم بعد موته يتنفسون الصعداء، ويحمدون الله على أنه أنقذهم من بلاء عظيم! وشعر أبو العلاء بسجنه الفلسفي والطبيعي دائما، ثم لم يكتف بهما ، بل أضاف إليهما سجنا ماديا ثالثا، وأقام في هذه السجون شاعرا بها ملائما بين حياته وبينها، لا حظ له من حرية في سيرته؛ لأنه رفض هذه الحرية، أو اعتقد أنها لم تتح له، ولم تهد إليه، فلم يسئ إلى أحد بيد ولا بلسان ولا بنية، ولم يكد يسيء إليه أحد، ولعل بعض الناس أن يكونوا قد آذوه بأيديهم وألسنتهم فلم يضطغن على أحد منهم، ولم يضمر لأحد موجدة، وإنما عفا وغفر؛ لأنه كان يعتقد أن «من صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور» وقد عمر حتى نيف على الثمانين في عصر كثرت فيه الفتن، واشتد فيه الظلم، وانتشر فيه الفساد، وشاع فيه الكيد، واختلفت فيه على وطنه الدول، فلم يبسط عليه السلطان يده، ولم ينله بأذى على كثرة ما امتنع على السلطان، وعلى كثرة ما نعى على الملوك والأمراء سرا وجهرا. كان وادعا هادئا مكفوف الأذى عن الناس، فكف الله عنه أذى الناس. فلما مات كان الواجدون به أكثر جدا من الواجدين عليه.
وأما أبو الطيب: فقد نشأ وعاش في عصر قريب من عصر أبي العلاء، مشبه له في أكثر خصاله، وقد شارك أبا العلاء في ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وفي التفوق والنبوغ، وشاركه في الشعور بفساد الحياة العامة للمسلمين من جميع أنحائها، وشاركه في الشعور بتفوقه وامتيازه، وفي اعتداده بنفسه، ولكنه لم يشاركه في هذه الآفة التي اضطرته إلى العجز، وأخذته بالوحدة، وفرضت عليه الاعتزال. ومع أن أصول الفلسفة العلائية توشك أن توجد كلها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك في غير هذا الحديث، ومع أن أصول الفن العلائي يوجد أكثرها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك أيضا في غير هذا الحديث، ومع أن أبا العلاء كان مقلدا لأبي الطيب، مفتونا به حتى لنستطيع أن نعده تلميذا من تلاميذه، مع هذا كله فما أعظم الفرق بين الرجلين لا في حياتهما العملية وحدها، بل في حياتهما العقلية أيضا! كان أبو الطيب عبدا لشهواته بشرط ألا نفهم من هذه الشهوات شهوات اللذة والفسوق، ونعيم الحياة، وإنما نفهم منها شهوات أخرى ممتازة بعض الشيء، شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. أنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق. ذاق مرارة البؤس، واحتمل ذل السؤال، وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم أشد الاحتقار، وتملق من كان يزدريهم أقبح الازدراء، ودفع إلى المخاطرة والمغامرة، وانتهى إلى السجن، وتعرض للموت، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء، وتبدل رأيا برأي، ومذهبا بمذهب، وذل للفرس بعد أن كان لهم عدوا، وبهم مغريا، وعليهم محرضا، وما زال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخلقي حتى تلقاه الموت في بعض الصحراء، فأراحه وأراح منه!
فأين هذا من أبي العلاء الذي لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها، ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، والذي اعتد بنفسه فارتفع بها عما تحتاج إليه الحياة من صراع، وآثرها بالعافية، وألزمها القصد والاعتدال، وضن بها على الكذب والمين، وعلى البيع والشراء، ولم يرد أن يتشبه بالملوك والأمراء في ملكهم وإمارتهم، ولا أن يطمع فيما يفيد عندهم الشعراء والأدباء والعلماء من رخيص اللذات، يشترونه بأغلى الأثمان، وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكانا، وأبعد من ذلك منالا، وأجل من ذلك خطرا. أراد أن يتوحد؛ لأن الله واحد، فقال:
توحد فإن الله ربك واحد
Bilinmeyen sayfa