فالاجتماع شديد التنازع قليل التكافل؛ لشدة ما فيه من التبذير في القوى التي له؛ ولذلك لا يزال منحطا جدا بالرغم عن اندفاعه البديع في القرن الماضي؛ لأنك كيفما جلت بنظرك فيه رأيت أمورا يأنف منها الطبع وينكرها العقل، وقد ينفر الإنسان منها حتى لا يقدر أن يضبط نفسه عن القيام ضدها. تراها في شرائعه ونظاماته وعاداته ومعاملاته، في كلياتها من حيث الغاية منها والباعث عليها، وفي جزئياتها من حيث تطبيقها على كل فرد من أعضائه، حتى إن البحث فيها لا ينضب.
أوليس من العار على الإنسان الذي يمتاز عما سواه من الكائنات بقوة العقل والاكتساب بالاختبار أن ينتظر ارتقاءه من الطبيعة نظيرها، وهو القادر أن يتصرف فيها بما له من المدارك لمصلحته؟ ويا ليته اقتصر على ذلك، ولكنك تراه دائما يستخدم هذه المدارك لإقامة العقبات في سبيل ارتقاء العمران، ولكم صده عنه وقضى عليه بالتقهقر؛ لشدة التباين بين أعضائه في العقل والعلم والقوة، وقامت الأثرة مقام تبادل المنفعة، فارتفع قوم إلى الأوج وانحط آخرون إلى الحضيض، وكلما قل هذا التباين قلت العقبات لاقتدار الأضداد حينئذ ووجوب الإصاخة لهم.
وهل العمران، كما هو الآن، يستفيد من قوى كل فرد، أو يعرف أن يستفيد منها؟ أوليس هذا هو التبذير بعينه؟ وإن كان لا يعرف، أفلا يكون هو الذي يدفع هذا الفرد إلى الإضرار بنفسه وبالمجموع كله عملا بناموس هذا التكافؤ؟
كثيرون يطرقون هذا المبحث، ويكثرون فيه من المن على الإنسان، فيطلبون الإصلاح له؛ لضعيفه وسقيمه، ومن لم تمده الطبيعة بالقوة الكافية للحصول على ما تستقيم به أموره، يطلبونه له رأفة به وشفقة عليه. أما نحن فنقول إن الإنسان في الاجتماع في غنى عن رحمة الراحمين وشفقة المشفقين، فلا نطرق هذا البحث بتحريك العواطف، ولا ندع للإنسان على الإنسان منا؛ لأننا ننظر في ذلك إلى المصلحة المشتركة. ففي العمران كما في الطبيعة لا يضيع شيء، ولا يضيع تأثيره. والتأثير الذي يحدثه الفرد في الاجتماع لا يدرك أهميته إلا الذي يقدر ناموس تكافؤ القوى في الطبيعة قدره، فكم من تأثير إذا نظرت إليه مباشرة يتراءى لك عديم القيمة، ثم بالانتقال والتفاعل يتحول مع الزمان، ويصير ذا شأن عظيم في الطبيعة. ولنا في الأفعال المتجمعة مثال محسوس، مثل الشرارة للبارود، وعليه المثل: «سبب النار شرارة، وسبب الشر كلمة.» ومن هذا القبيل الزلازل وسائر نكبات الطبيعة الفجائية.
فعلى هذا الناموس تتمشى أفعال الإنسان في العمران، فإذا أحسنا أو أسأنا إلى الاجتماع فإنما نحسن ونسيء إلى أنفسنا، وما نصنعه في سوانا يرده لنا هذا السوى «بفرطه»، كما يقال في لغة الماليين. فالاجتماع، كما ترى، أكبر مراب، ولكن على عكس المرابين؛ فهو يرد لك كل شيء تنفحه به برباه، ولو تبرعت به تبرعا ووهبته له هبة. خذ مثالا لذلك الأمراض، هنا أناس جمعوا بذكائهم أو دهائهم الأموال على ظهور العمال، فسكنوا الأحياء الفسيحة الأرجاء، تنفذها الشمس، ويلعب فيها الهواء، وتحف بها الحدائق، وبنوا فيها القصور يمرحون فيها على وثير المهاد وفاخر الرياش، وتحوطوا بكل ما تصح به الأجسام وتنفى الأسقام، وعلى قيد قصبات منهم أكواخ متراكمة بعضها فوق بعض كالتلال، يزدحم السكان فيها كالذباب، لا شمس ولا هواء ولا ماء إلا ما يكفي للاختمار، وجعلها بورة البوار ومعمل الدمار، حيث تجد الأمراض مرتعا خصيبا. فماذا يقيك من شر ما جنيت أيها المطمئن بعزلتك، وأنت شريك جارك في الماء والهواء والغذاء حمالة الأمراض ونقالة الوباء.
وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة يضيق عنها الحصر، وتتجدد أمامك كل يوم، وتدلك على نقص نظامات تلك الشرائع القائمة على مبدأ تأييد القوي وإرهاق الضعيف. غني يتقاضاك مالا لا يزيد في غناه بلغة، والله يعلم من أين أتى، وكل ما في مسكنك من المقتنيات لا يفي بسداده، وإنما يكفي ليصون عيالك. فالقانون الذي لم يعرف كيف يستفيد من عملك لينتفع بك وينفعك يقضي عليك، ولو أدى ذلك بك وبعيالك أن يأويكم العراء، ويصدر القاضي، وقد مات منه الضمير، حكمه مصدرا باسم مليك البلاد ... إلخ، ثم يصب البلاء على العباد. فعلى من اللوم إذا تراكمت أمثال هذه الأفعال بناء على هذا الناموس، وأحدثت تأثيرها المتجمع في الجموع، فقاموا يصادرون الاجتماع، ويحدثون الثورات، كالثورة الفرنساوية، وثورة العمال القائمة اليوم، والتي سيكون هولها أشد من تلك إن لم تدفع بالحكمة؛ لانحصار تلك في بقعة من الأرض وفي شعب من الشعوب، ولانتشار هذه في كل العالم المتمدن؟ بل على من اللوم إذا تمادوا وركبوا على متن الغلو، ولسان حالهم يقول:
ماذا يهمني إذا خربتا
ما دمت خربانا أنا وأنتا
منعما تبيت فوق الريش
وذا أنا أبيت في الحشيش
Bilinmeyen sayfa