وما هي الحيلة يا ترى؟ أليست الخداع؟ وما هو الخداع؟ أليس الكذب؟ وبلسان من عبر الشاعر بقوله:
والصدق إن ألقاك تحت العطب
لا خير فيه فاعتصم بالكذب
أليس بلسان الهيئة الاجتماعية نفسها حتى صار الكذب شيئا لازما في الحياة الخصوصية كما في الحياة الاجتماعية، في صناعة الحب كما في صناعة الحكم على الجماهير؟ ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يكذب لأنه رآنا نعاقبه على الصدق، وأن يسرق لأنا حجبنا عنه ما يحتاج إليه؟ فالكذب عادة الذنب في انتشارها على الهيئة الاجتماعية، وهو الذي يجرنا إلى ارتكاب الجناية، وهذه الهيئة التي تعلمنا ذلك وتجرنا إلى ذلك هي التي تطلب معاقبتنا على ما اكسبتنا إياه بالعادة، ومكنته فينا بالوراثة. •••
وأنواع العقاب الكبرى ثلاثة: القتل، والحبس، والتعذيب. فبهذه العوامل البربرية الثلاثة يسطو القضاء على الهيئة الاجتماعية التي وكلت إليه صيانة مصالحها. ومما يدلك على أن هذه العوامل الثلاثة من آثار التوحش زوال بعضها وتلطيف البعض الآخر؛ فإن التعذيب الذي كان سلاح القضاء في عصور الخشونة كاد يزول من أكثر الممالك المتمدنة، وقل القتل، واصطلحت حالة السجون نوعا. فبعد أن كان الجاني يلقى في أعماق السجون المظلمة محجوبا عن الهواء والنور اللذين من بهما الخالق على الأخيار والأشرار، صار يسمح له بأن يرى النور ويستنشق الهواء. وهذا الإصلاح الطفيف المعيب الذي يفتخر به القضاء اليوم هو عار على القضاء، ووصمة تخجل منها الإنسانية، ولا يستطيع أن يفاخر به أقل الإصلاحات التي حصلت في أقل الفروع المعاشية التي تهم الهيئة الاجتماعية.
وما دام القضاء لا يتخذ مبدأ له دفع الشر عن الهيئة الاجتماعية، وتوفير النفع لها عوضا عن العقاب للانتقام؛ فهو بعيد عن الغاية التي تطلبها منه هذه الهيئة، وهي صيانة مصالحها وتمهيد طرق إصلاحها.
وبم يكون دفع هذا الشر وتوفير هذا النفع؟ أبالإعدام الذي هو نقص في الشرائع، كما أن البتر نقص في الطب، ولا يجوزان إلا إذا تعذر الإصلاح؟ أم بالتعذيب وبالأشغال الشاقة، وهي معاملة خشنة تمكن الإنسان من الأخلاق الوحشية، وتبعده عن الإنسانية؟ أم بالسجون التي هي قبور في الحياة لا يكتسب الإنسان فيها إلا فساد صحته من سوء الغذاء وقلة الهواء والنور والنظافة، وفساد أخلاقه لما بها من سوء المعاملة، وعدم الاعتناء بالتربية الحسنة، يأكل الإنسان فيها ويشرب وينام، وقد يجتر كالحيوان، ويقل عنه في أنه لا يعمل عملا مفيدا، ولا يكتسب عملا مفيدا؟ سقوفها تمطر البق، وأرضها تنبت القمل، وجدرانها تشف عن الرذائل، أفي مثل هذه الأماكن المعدة في الأصل للانتقام نأمل أن نصلح الجاني، وأن توفر نفعه للهيئة الاجتماعية؟ كلا ثم كلا.
فالهيئة الاجتماعية نظلمها، وأي ظلم، إذا كنا نظن أنها تطلب منا أن نقتص لها من جناتها انتقاما منهم، حاشا ثم حاشا أن تطلب ذلك من نفسها ضد نفسها، وهي في صحة عقلها، وبالحقيقة من هم الجناة؟ أليسوا من الأفراد الذين يؤلفون الهيئة الاجتماعية نفسها؟ فلقد انقضت تلك العصور الخشنة؛ عصور الجهل التي كانوا يغفلون فيها مصالح الأفراد، ولا يدركون قيمة لهم، كأن ليس لهم حق في الحياة الاستقلالية، وليس لهم شأن في الحياة الاجتماعية، ولا يستحقون رحمة بهم ولا عطفا عليهم من الإنسانية، ولكن نور العلم الوهاج الذي يزداد كل يوم نورا، والذي هو نبراسنا الساطع في ظلمات هذا الوجود، ودليلنا الذي لا يضل في مجاهل هذه الحياة؛ آخذ في تمزيق غياهب الضلالات التي أورثناها الجهل، وكل يوم يهتدي به العقل إلى تعظيم شأن الأفراد في الاجتماع الإنساني كما هو شأنها في الاجتماع الطبيعي، لتأييد دعائم الاقتصاد السياسي الذي هو نوع من الاقتصاد الطبيعي؛ لأن الأفراد هم الأساس الذي تبنى عليه الجموع، وتنشأ منه الجماهير، وتتألف منه الهيئة الاجتماعية؛ فالعبث بحقوق الأفراد عبث بحقوق الهيئة الاجتماعية نفسها. •••
ومن ينكر أن السجون على حالتها الحاضرة هي منشأ الجرائم والرذائل وكل الشرور التي تتأصل في الهيئة الاجتماعية، فلا شك أنه من القحة على جانب عظيم، وإنه لعار على القضاء أن يكون الأخير في الاستفادة من مكتشفات العلم والصناعة، وسائر معدات التمدن. ولئلا أرمى بالجسارة والتحامل، أقول لنقابل بين المستشفيات في الماضي ومعاملة المرضى فيها والمستشفيات اليوم ومعاملتهم فيها، وبين السجون في الماضي والسجون اليوم ومعاملة المسجونين فيها. فقد جاء في الكورسبوندانس مديكال بتاريخ 31 مايو من هذه السنة عن المستشفى المعروف بأوتل ديو بياريز، الذي هو أقدم مستشفيات أوروبا (فإنه أنشئ في سنة 651) نقلا عن تقرير تنون في سنة 1786 ما نصه: «وكانوا يطبخون في قاعات المرضى الطعام المعد لهم، وكانوا يضعون عدة أشخاص في سرير واحد، حتى كان الداخل إليها يكاد يختنق.» •••
بل ننظر إلى معاملة المجانين في المارستانات في الماضي كيف كانوا يضربون ويعذبون ويهانون، ثم ننظر إلى ما صارت إليه المستشفيات والمارستانات اليوم من الإتقان البالغ الغاية القصوى من توفير أسباب الراحة والاعتناء بالصحة، حتى صارت تحاكي قصور الملوك. لننظر إلى ذلك ونقابله بحالة السجون والمسجونين في كل المعمورة، هل توجد نسبة بين الإصلاح المعيب الذي حصل في السجون، والإصلاح البالغ الغاية في المستشفيات؟ والذنب في ذلك على من؟ أليس على القضاء نفسه الذي لم يعرف أن يستفيد من أتعاب الإنسان كما استفاد سواه، بل الذي لا يزال مستمسكا بالقديم المتنقل إليه من عصور غلب جهلها على علمها، معتبرا أنه ما وجد إلا للإرهاب والعقاب والانتقام، وهو بذلك يزيد مصائب الهيئة الاجتماعية، خلافا لما يطلب منه، وهو إصلاحها وتخفيف ويلاتها، كأن أهل السجون لا يستحقون هذه العناية؟ فكيف استحق مرضى الأجسام اعتناء رجال الفضل والحكومات بهم، ولا يستحق مرضى الاجتماع منهم ذلك؟ لأن أهل السجون ليسوا بالحصر إلا مرضى في الهيئة الاجتماعية، سواء كان بالمعنى الحقيقي أو بالمعنى المجازي. •••
Bilinmeyen sayfa