فترى مما تقدم أن الدين نفسه ليس العقبة الحقيقية في سبيل العمران، بل رجال الدين أنفسهم، وأي برهان على ذلك أسطع من سهولة ارتقاء اليابان؟ فإنها لما تحاكت مع أوروبا، وقام فيها عاهل يفهم قيمة الارتقاء بنشر العلم، وتأييد الصناعة؛ نشطت وارتقت بسرعة لا مثيل لها في التاريخ؛ وما ذلك إلا لأن الحائل دون ارتقائها كان السلطة الحاكمة، فلما زال هذا الحائل لم تصادف الأمة عقبات أخرى من رجال الدين؛ لأنهم هناك ليسوا شيئا يذكر؛ لأن الدين عندهم شذرات من شرائع أهمها البوذية، وهي تعاليم أدبية اجتماعية أكثر منها دينية.
ولقد ردت الجرائد على هذا الطعن كل بحسب ما تراءى له أنه معزز للدين، ولكني أقول بكل أسف إنهم لم يريدوا أن ينظروا إلى الحقيقة كما هي، فلم ينظروا إلى تقهقر العالم الإسلامي والأسباب التي دعته إلى هذا التقهقر، وهم في موقف اليوم يغبطون عليه للمجاهرة بالحق. نعم إن الحق يجرح، ولكن الإنسان الذي يبحث في جسمه عن محل الألم ليداويه يفلح أكثر من الذي يحاول أن يخفيه. ولو فعلوا لخدموا الدين وخدموا أنفسهم بالتنبيه إلى مواطن العلة للنهوض من الوهدة التي سقطوا فيها بسبب جهل زعماء الدين، الذين هم وحدهم المسئولون عما جنوا على العمران وعلى أممهم وعلى الدين نفسه بالاشتراك مع الحكام، فساقوهم بعصي المظالم عصورا متطاولة، ولفتحوا أمامهم الباب واسعا لإدخال الإصلاح بينهم ولو بثورة في قلب الأمم الإسلامية تحديا بمن سبقهم من الأمم الأخرى، ذلك خير لهم من فنائهم بالابتلاع شيئا فشيئا كما هو الواقع اليوم.
فالمنصف لا يسعه أن يلقي على القرآن تبعة تقهقر الأمم الإسلامية، بل على الرؤساء من رجال الدين والحكام. فإذا أرادت الأمم الإسلامية أن تجاري الأمم المتمدنة في ارتقائها فالقرآن لا يحول دونها، كما أن الإنجيل لم يكن الباعث على نهضة تلك، وما عليها إلا أن تجاريهم وتضرب الضربة الشديدة على أيدي الرؤساء عموما؛ لتكشف بالعلم سجوف الجهل المسدولة على عقول الشعب.
وإني لأستغرب من جرائدنا مع ما أظهرته اليوم من الحمية لنصر الدين، كيف أنها لم تقم قيامتها اللازمة لنصر رجل جهر بالحق منذ عهد قريب لتطهير الدين من البدع الشائنة، ولمنع وقوع الحيف عليه، ولم يسمع حينئذ إلا صوت أولئك الذين ضربوا على يد الضارب على هذه البدع، ولم يسمع لهم صوت اليوم كأن الدين معايش، وهي لو فعلت لنصرت الدين نصرا مبينا، ومهدت السبيل ل «لوثر» يصلح من عقائدها، ويدفع عن القرآن تهما ما أنزل الله بها من سلطان. ولعل الصوت القاسي الذي جاءهم اليوم من وراء البحار ينبههم أكثر إلى هذا الفرض الواجب، فيهبون هبتهم إلى هذا الإصلاح ، ويقولون ونحن نردد معهم:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
المقالة السابعة
ماذا قرأ وماذا رأى1
الإنسان لا يرى الحقيقة لأنه أعرق في جهلها، وإذا رآها لا يريد أن يعرفها لأنها تروعه، فيدور حولها ويروغ منها لأنه ألف التمويه في كل شيء، وإنه ليفضل أن يكذب على نفسه إذا عرفها من أن يقولها. ***
هيولي تملأ الفضاء متحركة حركة دائمة، لا أول لها يعرف ولا آخر يوصف، كأنها سلسلة حلقات متصل أولها بآخرها، أو نقطة من محيط دائرة لا يعرف أين تبتدي ولا أين تنتهي.
زوابع تثور، فتتحول جواهر تتضام دقائق فذرات فأجساما فأجراما، تسبح في هذا الفضاء، تنقسم شموسا تضيء وأقمارا تستمد وسيارات تدور، وثوابت ليست ثوابت إلا بالنسبة إلى سياراتها، وإلا فالكل في فلك يدور.
Bilinmeyen sayfa