1
وقد أهمل البحث في الطبيعة في العصور الوسطى، تلك العصور التي سادت فيها الكثلكة، وغلب على الناس التدين الأعمى والخضوع المطلق، فلم يفكروا إلا في أنفسهم وعلاقتها بالله، بل كانوا يستخفون بهذه المباحث، فقل النظر فيها حتى جاءت البروتستانتية فحررت العقول من أغلالها، فهبت من رقدتها للبحث، وساعد على نهضتها استكشاف ممالك لم تكن تعرف، فانبعثت الفلسفة القديمة، ووجه الفلاسفة مثال «جاليليو» و«كبلر» و«برنو» وغيرهم أنظارهم نحو العالم والكون، فأداهم النظر إلى استكشافات كبرى (وتبين أن ذلك الكوكب الذي نعيش فيه ليس إلا هنة تدور حول شمس من شموس عديدة انتثرت في الفضاء نثر الرمال في الصحراء)، ولم يكن العلم الطبيعي (الفلسفة الطبيعية) متميزا عن فلسفة الطبيعة حتى في أيام الفلاسفة «ديكارت» و«ولف» و«نيوتن» إلى أن ظهر سنة 1770م الكتاب المشهور المسمى «نظام الطبيعة» لمؤلفه «بارون هلباخ» وإن كان الكتاب ظهر باسم «ميرابو»، وجاء «كانت» و«شلنج» فأوضحا الفرق بين فلسفة الطبيعة والفلسفة الطبيعية، ومن ثم سارت العلوم الطبيعية شوطا بعيدا، وقد حصرت فلسفة الطبيعة في مسائل (ما وراء المادة) أو ما بعد الطبيعة، وفي البحث في أشياء كانت سببا في استكشاف العلوم الطبيعية، فيبحث في: القوة والهيولي والحركة والحياة ونحوها مما هو موضوع العلوم الطبيعية.
هوامش
الفصل الرابع
علم النفس (سيكولوجيا)
كان مما لفت نظر الإنسان وأيقظ رأيه واسترعى بحثه ومرن فكره - كما ذكرنا - هذا العالم الذي تنوعت أشكاله وتغيرت ظواهره، الحافل بمناظره، المحير بألغازه ، الذي بهر العقول بجماله وروائه، وقد كان أول باعث على أن يفكر فيه تفكيرا فلسفيا رغبته في فهمه وإخضاعه لأمره، وما اعتراه من الدهشة التي أخذت بحواسه، لذلك بدأ الإنسان بالفلسفة الطبيعية التي تميل بالمرء إلى حل معميات هذا العالم، وتلا النظر في العالم المادي ما هو أهم للإنسان؛ وهو النظر في نفسه.
أثبت العلم أن الأرض ليست إلا كوكبا صغيرا سيارا يدور في فضاء غير متناه، ومع هذا فالإنسان من قديم الزمان إلى الآن لا يزال يرى نفسه خير موجود في الدنيا، ومهما اقتنع بأن القبة الزرقاء التي تتلألأ بالنجوم لم تخلق من أجله، وأن السيارات غير الأرض مسكونة كأرضه، فلن يعدل على أن يعتقد في نفسه أنه أرقى مخلوق، والسبب في هذا أن ارتقاء عقله جعله يشعر تدريجيا بوجوده وبعلمه - أو بحاجته إلى العلم - وبشعوره ورغباته وأفكاره، وبأن له قدرة على أن يبدي أفكاره، وأن يفضي بها إلى غيره، وعلى الجملة جعله يدرك أنه وحده عالم في عالم.
دعته دواع لأن يعرف فاجتهد في تعرف ما حير عقله، وكانت تلوح منه التفاتة نحو نفسه فيأخذه العجب من تلك القوة التي فيه، بها يتحرك وينطق، بها يريد ويرغب، بها يشعر ويشتهي. قيل: إن سقراط استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي إلى الإنسان،
1
ونعني بذلك أن هذا الفيلسوف اليوناني العظيم أول من بدأ بالتفكير في الإنسان وما يتعلق به، وفضل ذلك على النظر فيما يحيط به من العالم المادي، وقد نسب إليه أنه أول من قال: «اعرف نفسك»، ولكن الحقيقة أن «طاليس» قالها من قبله، ومن ذلك الوقت والإنسان حيران في تلك الأسئلة التي وردت على لسان الشاب الحزين في شعر «هيني»، سألها نفسه في جنح من الليل وقد هدأت الأصوات وهو واقف أمام البحر المحيط الموحش: «ما الإنسان؟ من أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟» تلك أسئلة تركت المفكرين في كل العصور حيارى، أيام كان النوع الإنساني في همجيته، وأيام أن ابتدأ يرقى عقله، وأيام أن بلغ في المدنية والنمو العقلي شأوا بعيدا، قال «سوفوكليز» الروائي اليوناني: «ما أكثر العجائب! وأعجبها الإنسان.» إن هذه الأسئلة: «ما الإنسان؟ وما منزلته في العالم؟ وما علاقته بالأشياء التي تحيط به؟» هي التي قال فيها هكسلي: «إنها أساس كل ما عداها من الأسئلة، وإنها أحب للإنسان مما سواها.» هي التي شغلت الرءوس على اختلاف أنواعها: من ذوات القلانس من قدماء المصريين، إلى حملة العمائم، إلى لابسي القبعات السود، إلى أرباب الضفائر، إلى ألوف من رءوس تصببت عرقا من البحث، كل سأل هذه الأسئلة، وكل أجاب واختلفت إجابتهم باختلاف روح العصر الذي كانوا فيه.
Bilinmeyen sayfa