ـ[ما يجوز للشاعر في الضرورة]ـ
المؤلف: القزاز القيرواني المتوفى ٤١٢ هـ
حققه وقدم له وصنع فهارسه: الدكتور رمضان عبد التواب، الدكتور صلاح الدين الهادي
الناشر: دار العروبة، الكويت - بإشراف دار الفصحى بالقاهرة
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Bilinmeyen sayfa
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
قال أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي:
هذا كتابٌ أذكر فيه، إن شاء الله، ما يجوز للشاعر عند الضرورة، من الزيادة والنقصان، والاتّساع في سائر المعاني، من التقديم والتأخير، والقلب والإبدال، وما يتصل بذلك من الحجج عليه، وتبيين ما يمرّ من معانيه، فأردّه إلى أصوله، وأقيسه على نظائره، وهو باب من العِلْم لا يَسَعُ الشاعرَ جهلُه، ولا يستغني عن معرفته؛ ليكون له حجَّةً لما يقع في شعره، مما يضطر إليه من استقامة قافية، أو وزن بيت، أو إصلاح إعراب.
وذلك أن كثيرًا ممن يطلب الأدب، وأخذ نفسه بدراسة الكتب، إذا مرَّ به بيتٌ لشاعر من أهل عصره، أو لطالب من نظرائه، فيه تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان، أو تغيير حركة عما حفظ، من الأصول المؤلفة
1 / 99
له في الكتب، أخذ في التشنيع عليه، والطعن على علمه، والإجماع على تخطئته.
ولو نظر بعين الحق، لعلم أن ذلك لا يُخَرَّج إلا من وجهين: إما أن يكون ذلك جائزًا، لعلل تغيَّبت عنه، لم يبلغ النهاية من علمها، وهو كذلك، ووهمه الذي لعلَّه إن نُبِّه عليه، أو أعاد نظره فيه، رجع عنه إلى الصواب، وتخطاه إلى مالا مَطْعَنَ فيه من الكلام، إذ كان غير معصوم من الخطأ، ولا ممنوع من الزَّلَل.
فليس للناظر في الأصول مع تأخره عن الإحاطة بسائر الفروع، الهجومُ على ما لَعلَّه جائز عند المتقدمين في العلم، الناظرين بعين الحقّ؛ كأخذهم على أبي نواس، في قوله:
نَبِّه نَدِيمَك قد نَعَسْ ... يَسْقيكَ كأسًا في غَلَسْ
قالوا: كان الوجهُ يَسْقِكَ؛ لأنه جواب الأمر، وهو جزمٌ، تسقط له الباءُ من يسقيك، كما تقول في مثله: ارْمِ زَيْدًا يَرْمِك، فتحذف الياء للجزم.
وهذا على ما أُصِّل في الكتب المختصرات على ما قيل، غير أن لجوازه وجهًا من العربية، وهو أن الشاعر له أن يُجْرِيَ المعتلّ مُجرى السالم، فيتوهم
1 / 100
أن الياء كانت متحركةً، وأنه أسكنها للجزم على أصل ما يفعل في السالم.
ومثله قوله الشاعر:
ثم نادِي إذا دخلت دِمَشْقًا ... يا يزيدَ بن خالدِ بن يزيدِ
فقال: نادِي وهو أمرٌ، فأثبت الياء على ما ذكرنا، وهو كثير يمرُّ في داخل الكتاب؛ لأن هذا موضعُ اختصار.
وأُخذ أيضًا عليه قولُه:
كَمَنَ الشَّنْآنُ فيه لنا ... ككُمون النار في حَجَرِهْ
قالوا: والنار مؤنثة، فكان الوجهُ أن يقول: ككمون النار في حجرها. وهذا ظاهِرُهُ على ما قالوا، ولكنَّ العربَ تتَّسع، فتذكِّر المؤنث لمعنى تُخْرِجه له، يَئُول به إلى التذكير؛ كما قال امرؤ القيس:
بَرَهْرَهَةٌ رَخْصَةٌ رُؤْدَةٌ ... كخُرعوبةِ البانةِ المنفطرْ
1 / 101
فذكَّر الخُرعوبةَ والبانةَ، لأنه يريد الغصنَ أو نحوه من المذكر. وكما قال الآخر:
لو كان مِدْحةُ حَيٍّ مُنْشِرًا أحدًا ... أحيَا أباكنَّ يا لَيْلَى الأَمادِيحُ
فقال: منشرًا وهو للمِدحة فذكّر؛ لأنه يريد المدح أو غيره، مما هو في معناه من المذكّر. وكثير مثل هذا يُذكر في مواضعه.
هذا، على أن بعض النحويين يقول: كل ما لا رُوح له، يجوز تذكيرُه وتأنيثه. وهذا، وإن لم يكن بشيء، فقد ذكرنا ما يعضدّه من شعر العرب، ونذكر فيما يُستقبل أكثر من هذا.
على أن بيت أبي نواس له وجه، لا ضرورة فيه، وهو أن الكُمون مذكَّر مضاف إلى النار، فيرد الهاء عليه، فكأنه قال: ككمون النار في حجر الكمون، أي في الحجر الذي يكمن فيه النار.
1 / 102
وأخذ عليه قوله:
كيف لا يُدْنيك مِن أمَلٍ ... مَنْ رسولُ الله من نَفَرِهْ
قالوا: وهذا قلب المعنى، وإنما الوَجْهُ: مَنْ هو مِنْ نفر رسول الله. وهذا ليس فيه نَقْصٌ، لأنه إذا كان من نفر رسول الله، فرسول الله من نفره.
ومنه قول الآخر:
وما زال في الإسلام من آل هاشمٍ ... دعائمُ عِزٍّ لا تُرَامُ ومَفْخَرُ
بهاليلُ منهم جعفرٌ وابنُ أُمِّه ... عَلِيٌّ ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ
فجعل مَنْ ذَكَرَ منهم، كما جعل الأوّل محمّدًا ﷺ، من نفر الممدوح.
وأُخذ عليه قوله:
شَمُولٌ تخطَّاها المنونُ فقد أتتْ ... سِنُونٌ لها في دّنِّها وسِنُونُ
تُراثُ أناسٍ عن أناس تُخُرِّمُوا ... توارَثَها بعد البنين بَنُونُ
1 / 103
فقالوا: رفع نون الجميع. وهذا قد ذكره النحويون أنه يجوز في اضطرار الشعر، وأن العرب تُجرى النُّون الزائدة مُجرى الأصلية، فتعربها، وتجعله بمنزلة كلمة واحدة.
وكأخذهم على أبي تمام:
من كلِّ أظمَى الثَّرى والأرضُ مُخْلِفَةٌ ... ومقشعرُّ الرُّبا والشمسُ في الحَمَلِ
قالوا: والوجه ظمآن الثرى؛ لأن الواحدة ظمأى، كعطشان وعَطْشَى.
وإن كان كما زعموا، فإن للشاعر أن يَرُدَّ مذكّر فَعْلَى إلى مذكّر فعلاء؛ إذ كان كل واحد منهما مقيسًا على صاحبه؛ وذلك أن فَعْلاَن هذا مضارع لفَعْلاء، فالألف والنون في آخره، كالهمزة والألف في آخر فَعلاء، وخالفوا بين مذكّره ومؤنثه، كما خالفوا بين مذكّر أفعل ومؤنثه في اللفظ. فلما اضطر أجرى مذكر فَعْلى مُجرى مذكر فَعلاء.
وأيضًا فإن العرب تقول: رُمْحٌ أظمَى، إذا كان أسمر، وقَناةٌ
1 / 104
ظميَاءُ، إذا كانت كذلك، فجوز أن يكون المعنى: من كل أسود الثرى والأرض مُخلفة، ألا تراه أسْوَدَ لِمَحْلِهِ، وذلك يدل على الجَدْب، فيكون هذا لا ضرورة فيه.
وأُخذ عليه قوله:
أظنُّ دموعَها سَنَنَ الفَريدِ ... وَهَي سِلْكاه من نَحْرٍ وجِيدِ
قالوا: فالسَّنَنُ الطريق، وأضاف إليها الفريد، وشبه الدموع بها. وكان الوجه أن يقول: أظن دموعها الفريد؛ لأنه هو الذي يشبه الدموع، لا طريقُه، وإنما أراد: أظن سَنَنَ دموعها سَنَنَ الفريد؛ يريد أن يشبّه تتابُعَ الدموع، وهو سَنَنَُه، بتتابع الفريد، إذا وهي سِلْكُه.
ومثل هذا في شعر العرب كثير، منه قول الشاعر:
وشرُّ المنايا مَيِّتٌ وَسْطَ أهلِه ... كُهلْك الفَتى قد أسْلَم الحَيَّ حاضِرُهْ
فقال: وشر المنايا ميّت، وإنما يريد: وشر المنايا منية ميت، كما
1 / 105
قال هذا: أظن دموعها سنن الفريد، يريد: أظن سنن دموعها.
وأخذهم على أبي الطيب أحمد بن الحسين:
أُحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيْلَتُنا المَنُوطةُ بالتّنادِ
قالوا: فغلط في هذا البيت في وجوه منها: أنه صرف أحاد، والعرب لا تعربه، وإنما تجعله مبنيًا؛ كقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . ... أُحادَ أُحادَ في الشّهر الحَرَامِ
وقال: سداس، والعرب لم تجاوز في العَدَد رُباع
1 / 106
وقال: لييلتنا، والعرب إذا صغرت ليلة قالت: لُيَيْلِيَة، فحذف هذا الياءَ من آخره.
فأما قوله: أحادٌ، فهو وجه الكلام هاهنا، ولا يكون غيرُه، وليس هو مما قال الشاعر في قوله:
. . . . . . . . . . . . ... أُحادَ أُحادَ في الشهر الحرام
وذلك أن العرب إذا قالت هذا، فكأن فيه معنى الموالاة، وكان ممنوعًا من الصرف؛ لأنه يجتمع فيه علّتان: إحداهما العَدْل، والأخرى أنه يؤدي عن معنى آخر؛ وذلك إذا قال: جاءني القوم مثنى مثنى كان معدولًا عن اثنين، يؤدي عن معنى: اثنين اثنين. ولما قال هذا الشاعر: أحاد كان معناه: واحد في ستة أم ستة في واحد، فهو معدول عن واحد يؤدي عن معنى واحد، فليس فيه إلا علة واحدة، فلذلك انصرف، كما أن طُوَالًا معدول عن طويل، وهو بمعنى طويل، فهو منصرف.
وأما قولهم: إن العرب لم تجاوز في العَدد رُباع، ادِّعاء منهم؛
1 / 107
لأن القياس لا يمنعه، وإنما جاء في القرآن إلى رُباع، فأما في الكلام فلا أرى مانعًا يمنعه. على أنه قد أتى في الشعر عُشار، وهو قول الكميت:
فلم يَستريثُوك حتى جَمَعْ ... تَ فوقَ الرِّجال خِصالًا عُشارَا
فإذا كان القياس يعطيه، وقد جاء في الشعر ما يجوز رُباع، دل على أن قوله: سداس جائز.
وأما قولهم: كان يلزمه أن يثبت في آخر ليلة الياء في التصغير، على ما يفعل العربُ، فهذا تشعيث؛ وذلك أن العرب لما قالت في جمع ليلة: ليالي، جاءوا بياء في الجمع لم يكن في الواحد، قالوا: كأنه جمع ليلاة،
1 / 108
فلما صغّروا جعلوا التصغير بمنزلة الجمع، لأنهما من واد واحد، والزيادة فيهما من مكان واحد، فزادوا الياء كأنهم صغروا ليلاةً، فقالوا: لُيَيْلِيَة، فإذا صغّره شاعر على اللفظ، كان حسنًا، بل لا يمتنع في الكلام فضلًا على الشعر.
والعرب تقول في تصغير رَجُل: رُجَيْل ورُوَيْجل، فمن صغّره رُجَيْلًا، صغره على لفظه، ومن قال: رُوَيْجِل قال: معنى رجل وراجل واحد، فصغّره على المعنى، فليس في هذا البيت على هذا مطعنٌ.
وأخذ عليه في قوله:
وا حَرَّ قَلباهُ ممّن قلبُه شَبِمُ ... ومَنْ بجسمي وحالي عنده سَقَمُ
قالوا: فالغلط في هذا البيت من وجهين:
أحدهما: أنه وصل المندوب، وحرَّك الهاء، وهي هاء إنما تدخل في الوقف، وهي ساكنة أبدًا إذا قلت: وا زيداهْ، وا عمراهْ فإذا وصلت أسقطت الهاء، فقلت: وا زيدَ بن عمرو.
1 / 109
والوجه الثاني: أنه أسقط الياء من المضاف إليه، وهو موضع لا تسقط فيه الياء؛ لأنه إذا قال: يا غلامِ أسقط الياء، فإذا قال: يا غلامَ غلامي لم يجُز إسقاطُها؛ فقوله: وَا حَرَّ قَلْبَاهُ بمنزلة: يا غُلامَ غُلامياه، فكما لا يجوز إسقاط الياء من الآخِر، كذا لا يجوز إسقاطها من القلب.
وهذا أيضًا يجوز في اتساع كلام العرب، أما إثبات الهاء في الوقف، ووصلها، فقد جاء في شعر العرب، وهو قول بعضهم:
وامَرْحَبَاهُ بحمار عَفراءْ
إذا أتى قدّمتُه لما شاءْ
من الشِّعِير والحشيشِ والماءْ
وكذلك قوله الآخر:
وا مَرْحبَاهُ بحمار ناجيَهْ
إذا أتى قدَّمتُه للسَّانِيهْ
1 / 110
فَوصَل الهاءَ وحرَّك.
فأما حذف الياء، فقد أجازه بعض النحويين، واحتج بأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد، فكما جاز حذف الياء من الأول، جاز حذفها من الثاني، ولا أرى هذا بالوجه، ولكن أراه جائزًا في مثل هذا البيت، وغير جائز في غيره؛ وذلك أن قول الشاعر: وا حَرَّ قلباهُ ليس بمنزلة: وا غلام غلامياه إلا في الإضافة، وبينهما فرق، وذلك أن هذا إنما التفجّع فيه
على الثاني، وليس الأول، فيه تفجُّع، فإذا قال: وا حَرَّ قلباهُ فكأنه قال: وا قلباه؛ لأنه هو معناه، فأجاز حذف الياء، كما يجيزها في قوله: وا قلباه وإذا قال: وا غلامَ غلامياه، فالتفجّع على الغلام الأول، فلذلك لم يجز حذف الياء من الثاني، وهذا بيّن إن شاء الله.
وأخذ عليه قوله:
هَذِي بَرَزْتِ فهجْتِ رَسِيسا ... ثم انصرفتِ وما شفيتِ نَسِيسا
قالوا: ولا يجوز إسقاط حرف النداء مع النكرة والمبهم؛ لا يجوز:
1 / 111
رَجُلُ، وأنت تريد: يا رَجُلُ. ولا: هذا وأنت تريد: يا هذا؛ لأنهم جعلوا يا عوضًا مما حذفوا، وأيضًا فإنه يلتبس بالخبر.
وهذا كله لا يلزم، قد أجاز حذفَ حرف النداء في هذا كله بعضُ البصريين، وأنشد في النكرة:
جارِيَ لا تستنكرِي عَذِيري
قالوا: يريد يا جارية.
وحكى في مَثل العرب: افْتَدِ مَخْنُوقُ وأْطرِقْ كَرَا؛ يريد يا مخنوقُ وياكَرَا؛ يعني الكروان.
1 / 112
فأما احتجاجهم بأنها عِوَضٌ، فلو لَزِمَ ما حُذفت مع المعارف، إذا قلت: يا عَبْدَ الله وعَبْدَ الله لأنها عِوضٌ من الفِعْل.
فأما قولهم: يلتبس بالخبر، فإن جوابه يمنع من ذلك، ألا ترى أن البيت: هذِي برزتِ، فلو كان خبرًا لم يَجُز أن يكون الجواب هكذا، وكذا كل ما كان من هذا الباب.
وأخذ عليه قوله:
جَلَلًا كما بي فَلْيَكُ التَّبريحُ ... أغذاء ذا الرَّشَأ الأغنِّ الشِّيحُ
قالوا: إنما يقال: لم يَكُ زيدٌ عاقلًا ولم يَكُ في الدار زيدٌ، فإذا لقي الألف واللام، رجعت النون، فقلت: لم يكن الرجل.
وهذا كلام العرب، غير أن لها فيه اتساعًا، وهي أنها تمنع شيئًا لوجوه غيره، وربما اتسعت فجمعت بينهما؛ كما قال بعضهم: اللَّهُمَّ، ويا للَّهُمَّ، فأدخل الياء في النداء مع الميم، وهي ممتنعة معها، وقد جاء هذا في الشعر.
1 / 113
وكذا تَمْنَعُ دخولَ (يا) مع الألف واللام إذا كانتا في الاسم، وقد جاء ذلك في الشعر.
وتَقلِبُ هذا المعنى، فتحذف شيئًا لعدم غيره، وربما حذفته وذلك محذوف أيضًا، كما كان أولًا؛ كقولهم: قاضٍ والقاضِي، فإذا دخلت الألف واللام، منعتِ التنوينَ، فعادت الياءُ، وإذا سقطتا دخل التنوين، فحذِفت الياءُ، فيقولون: هذا القاضِ والغازِ وأنشدوا:
فطِرْتُ بمُنْصُليِ في يَعْمَلاتٍ ... دَوَامِي الأيْدِ يخبِطْنَ السَّرِيحاَ
1 / 114
فقال: الأيد، والوجه أن يقول: الأيدي، لأن الياء تثبت مع دخول الألف واللام، فلما اضطُرَّ حذف الياء مع وجودهما، وذلك أنه أدخلهما على محذوف، وأبقاهما على الحذف، فكذا هذا حذف النون كما تفعل العرب، فلما أتى بالألف واللام ترك ذلك الحذف، وهذا بيِّن في هذا البيت.
وأخذ عليه قوله:
ابْعَدْ بَعِدْتَ بياضًا لا بياضَ له ... لأنت أسودُ في عيني من الظُّلَمِ
قالوا: كيف قال هذا وهو في معنى التعجب؟ وأنت لا تقول: هذا أسود من هذا، إنما هو أشَدّ سوادًا من هذا، كما تقول: ما أشدّ سوادَه، لا تقول: ما أسوده.
وهذا أيضًا كما قالوا في أصول العربية، إلا أن الشاعر له أن يجريه مجرى الثلاثي من الأفعال، كما قال الأول:
أبيضُ من أخت بني إباضِ
جاريةٌ في رمضانَ الماضِي
1 / 115
تقطِّع الحديثَ بالإيماضِ
فقال: أبيض من كذا، وهو مثل قول الشاعر: لأنت أسود في عيني. وأخذ عليه قوله:
بعثتُ إليه من لساني حديقةً ... سقاهَا الحِجَى سَقْيَ الرياضَ السحائبِ
قالوا: كيف يفرّق بين المضاف والمضاف إليه ثم يخفضه، وإنما كان الوجه أن يقول: سقْيَ السحائبِ الرياضَ أو سَقْي الرياضِ السحائبُ، كما تقول: عجبتُ من ضرب زيدٍ عمرًا ومن ضرب عمرٍو زيدٌ، إذا كان زيد في كل هذه فاعلًا، كما كانت السحائب فاعلة.
1 / 116
ويستحيل أن تقول: مِنْ ضَرْبِ عمرًا زيدٍ، كما قلت: سَقْيَ الرياضَ السَّحائبِ.
والعرب تفرَّق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر؛ كما قال الشاعر:
كما خُطَّ الكتابُ بكف يومًا ... يهودِيًّ يقاربُ أو يُزِيلُ
فخفض يهوديًاّ بإضافة الكف إليه، وفرق باليوم بينهما، وهو كثير يمر في الكتاب، فحمل هذا الشاعر هذا البيت على ذلك، فأجازه في الأسماء، تشبيهًا بالظروف، فهذا لا ينكر في الشعر لاتساع العرب فيه.
ولم نقصد في هذا الكتاب إلى العيوب التي تجري في الشعر، مما يؤخذ على الشعراء في غير النحو، ولو قصدت إلى ذلك، وذكرت كلَّ ما أخذ على الشعراء في كل فنًّ، لعظم ما أردت تقليله، وصعُب ما قصدت تسهيلَه، وبَعُدَ ما أمّلت تقريَبه؛ إذ كانت فنون الشعر كثيرةً، وطرق العيوب
1 / 117