وما كادت تظهر هذه الكتابة، حتى عم السكون، فكأن القاعة خاوية خالية، لا يسمع فيها سوى نبضات قلوب الألوف المجتمعة من رجال ونساء؛ إذ ذاك انتصبت رئيسة الجامعة القحطانية المرشدة أستير ليفي، وقالت:
سادتي
إن الوقت المخصص لهذا الاجتماع ساعتان كما تعلمون، فالبرنامج هو هذا: موسيقى آلية ثلاث دقائق، ثم نشيد جوق الجامعة للفتيات، ثم محاضرة الأستاذ المرشد محمد جمال العلم، وموضوعها «الجيل العشرون»، يتلو ذلك نشيد جوق الجامعة النابلسية للفتيان، ونختم الجلسة بقرار مستشار المعارف الأديب لمخائيل البناء عن أهم أعمال الحول. أشكركم.
فلما جلست الرئيسة ظهر على المنصة الآلاتيون، فلعبوا نغما لطيفا قصيرا، كي لا يمل الناس. ثم عدد من الفتيات، فأنشدن نشيدا متقنا مطربا، وهي قصيدة قديمة جدا لشاعر عاش في الجيل العشرين، كان يسكن القارة الأميركية، وينظم في العربية، ومن الغريب أن شعره راق، رقيق، خال من الحشو المبتذل، بالرغم من وجوده في ذلك الجيل المظلم المتوحش. ثم انتصب الأستاذ محمد، وإليكم خطابه، قال:
سادتي!
كنت أطالع من عهد قريب، مجموعة خطب ومحاضرات، لأناس مختلفين في الجيل العشرين، وقد استلفت نظري في أكثرها أن الخطباء في ذلك الجيل، كانوا يخصصون ثلث كلامهم لإطراء الحضور بالمبالغة السخيفة، وإطراء أنفسهم بذكر عجزهم وقصورهم، وهو أسلوب مبتذل لإلفات الأنظار إلى مقدرتهم، والثلث الثاني لحشو الكلام الرنان المصفوف صفا، والمركب تركيبا: مبنى دون معنى، ما يثبت أنهم كانوا يرتاحون إلى هذا النوع من الثرثرة، التي لا فائدة منها، والتي لا تدل إلا على شيء واحد، وهو عناية الكاتب أو الخطيب بالتفتيش عن الكلمات والجمل، التي تروق له وجمعها مترادفة، سواء كانت لازمة، أو لم تكن، والثلث الآخر لموضوع المحاضرة أو الخطاب.
لا أخالني يا سادة راجعا بكم إلى تلك العصور المتأخرة. أما إطراؤكم فلا حاجة لي إليه؛ لأنكم أدرى بأنفسكم مني، وقد تكونون إلى الانتقاد أحوج منكم إلى المديح. وأما الإقرار بعجزي، فأخشى أن يحمل محمل الكذب؛ إذ لولا أهليتي لما كنت حيث أنا بالتصويت الشعبي والانتخاب.
وهنا تبدو لي ملاحظة أخرى، غير مختصة بخطبائهم؛ فهي تشمل أيضا كتابهم وشعراءهم، إلا النذر القليل من السابقين المولدين، وهو التشابه العظيم في أقوالهم؛ حتى إن أكثرهم كان يردد عبارات وجملا واحدة، وينهج الأسلوب عينه، الذي ينهجه سواه. وهذا يدل على أمرين: إما أن المواصلات لم تكن موجودة البتة، فلم يدر أحدهم بما كتب الآخر، وهذا مردود تاريخيا ومنطقيا؛ إذا لا يعقل تكرار توارد الخواطر حتى في اللفظ. وأما أنهم كانوا راسفين في قيود التقليد العقيم، والسرقة الأدبية، وهذا الأصح. وقد قال الأستاذ المجرب حسين النافعي في كتابه الجليل: «تأثير الأديان في العصور المظلمة»، ما معناه:
أما كون أبناء اللغة العربية أكثر استسلاما للتقليد من معاصريهم، فلأسباب كثيرة: أهمها تأثير الأديان عليهم، فالأديان كما كانوا يفهمونها في تلك الأيام المحزنة، كانت شديدة التحفظ بحرفية تعاليمها، لا ترتاح إلى البحث وتحرم الجدال، عدوة الاستقلال وحرية العقول، وقد رسخت تعاليمها المشوهة بالتفسير والتأويل في قلوب الشرقيين ونفوسهم، رسوخ المرض العضال في الجسم النحيل. إنما الفرق بينهم وبين المريض، هو أن المريض يكره علته، ويسعى للتخلص منها. أما هم فكانوا شديدي التمسك بعلتهم، يتعصبون لها، ويناضلون من رام مداواتهم وإبراءهم منها. ولذلك، ولما كانت أديانهم مقلدة ومحافظة، نشئوا على التقليد والخوف من كل جديد وإن كان فيه التقدم والإصلاح.
ومن الأسباب أيضا ذلهم، وعدم معرفتهم الحياة الحرة المنطلقة من القيود، كما يعرفها العالم اليوم، فبينما كانت الأمم من حولهم نائلة بعض الاستقلال يومئذ، كانوا هم مستعبدين لسواهم، وقد ألفوا تلك الحالة، فقتلت فيهم العبودية قوة التوليد والاستنباط . أضف إلى ذلك الجهل؛ فقد كانوا، إلا الأفراد، قليلي البضاعة العلمية، يجهلون لغات المعاصرين وآدابهم، مما ضيق عليهم المسالك. اه.
Bilinmeyen sayfa