تمشى البك في الحديقة ونظر إلى السماء نظرة ابتهال وخضوع، فوجد القمر لامع الصفحة والنجوم زاهية، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم نظر للأشجار فوجدها تتمايل يمنة ويسرة، وقد هب نسيم عليل يحمل إليه شذى الورد وعبق الياسمين، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ونظر للنهر فوجد أشعة القمر الفضية تلاعب أمواج النيل، ورأى قاربا يحمل قوما يغنون ويضحكون، وسمع في تلك الآونة نشيد طائر يغني في جوف الليل البهيم، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم جلس على كرسي ونظر لكل شيء؛ لهذه الصورة الطبيعية التي رسمتها يد الخالق على صفحة الوجود، لهذا الجمال الذي يكشف الستار عن عظمة الخالق وقوته وشفقته وحنوه، لهذه الجنة التي هي مهبط الحب وخلوة اللذة والنعيم، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم تذكر أيام كان شابا يخفق قلبه لرؤية الغيد، فأغمض عينيه ورتل آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي، ثم فتح أجفانه وقال: «ما تلك إلا جنة ال ...» ولم يدر أي كلمة يتم بها جملته، فوقف وهو حائر الطرف، وإذا به يرى شبحين يسيران نحوه، فاختفى وراء شجرة كبيرة تحجب جسمه عن الناظرين ودق قلبه دقات متتابعة، وقال لنفسه: «من هو هذا الغريب الذي يجسر على التنزه في حديقتي قبل منتصف الليل؟!»
واقترب الشبحان منه فتفرس فيهما، فإذا به يرى ابنته تسير بجوار شاب جميل الصورة وقد أسندت رأسها على كتفه. عرف البك الشاب بعد أن تفرس في وجهه، وقال لنفسه: «هذا هو الشاب الفقير الذي كان يسكن بجوارنا أيام كنا نسكن بالحمزاوي.» ووقف الشبحان وتحادثا على مسمع منه، فقال الفتى: أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف إلى أن يضم عظامي القبر.
فأجابته الفتاة: وأنا أقسم لك على ذلك.
وقبلها الفتى في جبهتها وسار معها متخذا وجهة السور ليعود أدراجه إلى منزله.
خرج البك من مخبئه وهو ساكن صامت، ومكث هنيهة يفكر ثم نظر للسماء وللنهر وللأشجار، لهذا الجمال الطبيعي، لهذه الجنة الدنيوية، لهذا النعيم الحيوي، وقال لنفسه بعد أن فكر قليلا فيما رآه وفيما سمعه: «ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبين، ولعمري ما تلك إلا جنة الحب.» ورتل آيات من القرآن، ودخل إلى منزله وقد علت شفتيه ابتسامة تعبر عن هنائه وغبطته. •••
مضى على هذا الحادث شهر من الزمان أقيمت في نهايته حفلة قران الفتاة الغنية بالشاب الفقير، وما كانت تلك الحفلة إلا رمز انتصار الحب الطاهر على كل شيء.
أكتوبر سنة 1917
كان طفلا فصار شابا
أحمد محجوب يبلغ من العمر عشرين عاما، أقنى الأنف أسود العينين، مقرون الحاجبين وضاح الطلعة، جميل الصورة طويل القوام. إذا رأته النساء نظرت إليه بطرف خفي، وإذا رأى النساء مشى مشية التيه والدلال. أبوه من أغنياء القاهرة يملك ألف فدان من أجود أطيان الوجه البحري والقبلي، وأمه من عائلة عريقة في الحسب والنسب لا غبار عليها. رباه أبوه تربية مصرية بحتة فنشأ يخاف أباه ويخشاه ولا يجسر على محادثته، واختلط بفئة وضيعة تعلم منها لعب الميسر وولع به ولوعا أنساه كل لذة في العالم. وكانت له مربية تبلغ من العمر الخامسة والأربعين، ربته صغيرا من يوم أن بلغ الخامسة، وكان عمرها في ذلك العهد خمسا وعشرين عاما، وكانت قد طلقت من زوجها وهو رجل كان معاونا في إحدى زراعات الدومين، ومحجوب يحب مربيته ولكنه لا يخشاها، يهزأ منها إذا أغضبته، ثم لا يلبث أن يسترضيها فتنسى إساءته وتقبله وتضمه لصدرها ضاحكة مستبشرة.
لقد بلغ محجوب العشرين، ولكنه لا ينسى أيام كانت تضربه مربيته وهو طفل إذا هفا هفوة أو ارتكب إثما.
Bilinmeyen sayfa