أغسطس سنة 1917
صفارة العيد
العطفة التي نتكلم عنها طويلة ضيقة خالية من الأرصفة، تبتدئ بحائط سميك وتنتهي عند الشارع الكبير؛ حيث ترى على يمينها قصرا فخما يخاله الناظر سجنا أعد للمجرمين، وعلى شمالها قبرا لشيخ وهمي تقف أمامه الرجال والنساء يقرءون الفاتحة وهم ينظرون للسماء نظرة رجاء وابتهال، ثم يمسحون وجوههم بأيديهم ليتم الله نعمته عليهم. وإذا سرت فيها فبلغت منتصفها وجدت «أم مليم»، بائعة الطعمية والسلطة والكرات، جالسة القرفصاء أمام حانوتها المكون من قفص تعرض عليه ما تبيعه لسائق عربة الكارو ولابن السبيل والفاعل. وإذا اقتربت من بدايتها؛ أي من الحائط السميك الذي يقف في وجه المارة ليمنعهم من المسير، وجدت شجرة كبيرة يتفيأ ظلالها كل من تعب وتملكه الإنضاء. أما إذا أسرعت في سيرك خشيت أن تعثر في هاوية صغيرة أو تل لا يزيد ارتفاعه عن عشرة سنتيمترات، أو في القاذورات التي تلقي بها أيدي المارة بلا خوف ولا حذر. أما القصر فهو لأحد البشوات الذين أبوا أن يهجروا الحي الذي نشأ فيه أجدادهم، وهو قصر - كما قلنا - عظيم، يجلس على بابه الخصي واضعا رجلا على رجل وممسكا بمسبحة يستعين بها على قتل الوقت؛ حتى لا يشعر بسأم ولا ملل، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره، له شفاه تشبه قطع «البفتيك» التي تقدم لك في مطاعم العاصمة، وعينان يزداد احمرارهما كلما «أخذته الجلالة» فنطق باسم الله العظيم، وأنف أفطس كأنه ضفدعة وجدت في وجه الخصي منبتا حسنا، وكان طويل القامة ضخم الجثة، إذا مشى اهتز كما يهتز الفيل. •••
نحن في اليوم الأول من أيام العيد، والناس في هرج ومرج، والأطفال يلعبون في الشارع وقد أمسكوا بألاعيبهم وارتدوا ملابسهم الجديدة وتسامروا وهم يضحكون ويقفزون، والآباء انشرحت صدورهم ومشوا في الشارع وهم يقولون بعضهم لبعض: «كل عام وأنتم بخير.» وكان بين الأطفال طفل نحيل الجسم أصفر الوجه، ينظر لرفقائه نظرة تعبر عن غبطة لهم وعن رثائه لنفسه لحرمانه من سرورهم وسعادتهم، وكان خجولا من لباسه القذر وأقدامه الحافية. يقف بجوارهم ثم يضع يديه خلف ظهره ويبتسم، كأنه يسألهم السماح له بمشاركته إياهم سرور العيد، وليس في ذلك بأس عليهم وهو طفل مثلهم، يبكي إذا ألم به ضر ويضحك إن نال ما تصبو إليه نفسه، وأنى له أن ينال بغيته وهو يتيم توفيت أمه بعد ولادته بخمس سنوات، ومات أبوه بعد وفاتها بعامين! فعاله عمه، وأين حنو زوجة العم من حنو الأم! مشى الأطفال الهوينا ثم غادروا العطفة، وتواعدوا على العدو في الشارع الكبير، وجروا فيه أشواطا عديدة، فسقط أحدهم على الأرض فأسرع إليه رفقاؤه وهم يضحكون كما تغرد العصافير وعاونوه على النهوض من سقطته، فقام وهو كالح الوجه كاسف البال، وقد جال الدمع في عينيه، ولكنه لم ينس أن اليوم عيد وأن البكاء محرم فيه وأن السرور فرض، فما لبث أن نسي سقطته وتناسى آلامه وجرى خلفهم إلى حيث كانوا يقصدون. أما اليتيم فلم ينس آلام نفسه؛ تلك الآلام القاتلة التي كانت تدب في جسمه فتطفئ نوره وتذهب بجماله وروائه.
ثم غادر الأطفال الشارع الكبير، ومشوا في العطفة وهم يضحكون وينشدون الأناشيد الصبيانية، إلى أن وصلوا للشجرة الكبيرة، وهناك صاح أحدهم: لقد ابتعدنا عن الشارع الكبير، وهناك تمر الباعة، فهيا بنا نعود من حيث أتينا.
وتسابقوا وقد علا صياحهم في الفضاء. •••
ومرت في الشارع الكبير في تلك الساعة عربة كارو وقد ركب عليها سائقها، وهو شاب يشبه جسمه المكعب، له رأس له أربعة أركان يشبه مسطحها المربع. ألهب السائق جواده وهو يغني أنشودة بلدية جميلة: «أسمر سمرمر صغير السن لوعني»، ولما اقترب من الخصي قرأه السلام بصوت جهوري، فرد عليه الخصي السلام من أطراف شفتيه وهز رأسه كأنه يأسف على تدهور أخلاق السوقة. وعادت الأطفال في تلك الساعة من الشارع الكبير إلى العطفة، وهي ملجؤهم الوحيد، وفي يد كل واحد منهم صفارة اشتراها من بائع يجول في الطرق، وابتدءوا ينفخون في صفافيرهم ويغنون، وتلك لعمري موسيقى تبعث السرور في القلوب، وإن كانت غير شجية لتنافر نغماتها. وقف اليتيم معهم وقد أشجته تلك الموسيقى، واقترب من رفقائه وهم يرقصون ثم رقص معهم؛ إذ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك. فنظر إليه أكبرهم سنا وقال له بملء فيه: أين رداؤك الجديد يا علي؟
فلم يجب اليتيم وضحك الآخرون.
وقال ثان: أين صفارتك أيها الصديق؟
وقال ثالث: كفاكم رقصا ولنصفر جميعنا. ليرقص من ليست معه صفارة.
Bilinmeyen sayfa