الثقافة تؤدي إلى الحضارة
أحسن ما يقال في إيضاح الفرق بين الثقافة والحضارة أن الثقافة هي ما نتكون به، والحضارة هي ما نعمل به.
الثقافة علوم وفنون وفلسفات وعادات وتقاليد واتجاهات، تكسبنا جميعها مزاجا معينا نتجه به في سيرتنا ومعاشنا ونؤسس بها مجتمعا يتفق ومبادئ هذه المعارف ولا يتنافر معها، أما الحضارة فهي ما نعمل به من أدوات سواء أكانت هذه الأدوات حسية؛ مثل آنية الطبخ، أو مواد البناء، أو آلات، أو مصنوعات، أم كانت معنوية مثل المؤسسات الاجتماعية المختلفة كالحكومة، والمجلس النيابي، والمجلس البلدي، ونظام الادارة، وجباية الضرائب ونحو ذلك .
والثقافة تسبق الحضارة وتؤدي إليها؛ لأنها هي بمثابة الفكرة والحضارة بمثابة المادة، وتلك القاعدة السيكلوجية التي نسلم بها جميعا، وهي أن التعرف يؤدي إلى التأثر، والتأثر يؤدي إلى التحرك، هذه القاعدة تنطبق أيضا على الثقافة والحضارة، فنحن نتعرف الأشياء، ثم نتأثر بهذا التعرف فنتحرك به إلى عمل ما.
وهذا العمل قد يكون اختراع آلة أو اكتشاف عقار أو إيجاد نظام، وهذه هي الحضارة، ويمكن أن نقول: إن الحضارة الصناعية القائمة التي تمثل في المصانع الكبرى للنسيج أو لمركبات النقل، أو للبواخر والبوارج، أو للطائرات، هذه المصانع إنما هي الثقافة الرياضية والفيزيائية قد تجمدت في حضارة الآلات والحديد والفولاذ، ولا يمكن لأمة أن تعيش في حضارة صناعية ما لم تحذق الثقافة العلمية التي أدت إليها، وهي إذا أهملت هذه الثقافة العلمية فأنها سرعان ما تعود إلى الحضارة الزراعية التي تنتكس إليها كل أمة حين تتقهقر ثقافتها.
وكل تحرك اجتماعي يحتاج إلى تحرك ثقافي، وليس هناك غير الأمم الزراعية التي تستطيع أن تعيش على ثقافة راكدة لا تتحرك ولا تتباين ولا تتنوع؛ لأن المجتمع المتحرك يحتاج إلى ثقافة متحركة متباينة متنوعة. ومن هنا ضرورة الانقلاب الثقافي لإيجاد انقلاب في الحضارة، وهذا هو ما فعلته الصين واليابان وتركيا وإيران، فإنها حين أرادت أن تأخذ بالحضارة العصرية، أي: حضارة الصناعات والآلات اضطرت إلى أن تأخذ قبل ذلك بثقافة العلوم العصرية، وليس من المستطاع أن تأخذ أمة بالحضارة العصرية إذا كانت تعيش على ثقافة قديمة لم تستطع في تاريخها الماضي إلا أن تثمر الحضارة الزراعية فقط؛ لأن كل حضارة تحتاج إلى ثقافة تنشئها ثم تفسرها وتلائمها وتماشيها.
وإلا حدث التزعزع الاجتماعي الذي ينشأ من التنافر بين وسط حضاري جديد ووسط ثقافي قديم، وأقل النتائج التي يثمرها هذا التنافر أن الفرد الذي يعيش فيه ويعانيه لا يؤمن بتقاليده وعقائده وتراث آبائه من أخلاق، ثم هو مع ذلك لم يتهيأ بثقافة جديدة تزوده بميزات جديدة من العقائد والأخلاق، وهو هنا يعيش بلا ضمير.
ولعل مما يزيد بصيرتنا بهذا الموضوع تواتر الاختبار التاريخي بشمول الفوضى الأخلاقية أيام الثورات والانقلابات؛ لأن الثورة أو الانقلاب تعني تغيرا في الثقافة وتحركا في الاجتماع، وكلاهما يعني تغيرا في الضمير. وليس من الميسور على كل إنسان أن يتغير ضميره بالسرعة التي تقتضيها الثورة؛ لأنه حين يترك تقاليده وميزان الفضائل والرذائل الذي ورثه يحتاج إلى أن يستبدل بهما تقاليد جديدة وميزانا جديدا، لكن الثورة لا تسعفه بهما، فهو لذلك يعيش سنوات في فوضى أخلاقية.
وقد قلنا بأن الثقافة تعني العلوم والفنون والعقائد والعادات.
ولكنا لم نقل إن الأهم من هذا كله اللغة التي يتفاهم بها الشعب؛ لأن أعظم تراث اجتماعي لأية أمة هو لغتها، وهي أعظم مؤسساتها وأقدرها على خدمتها، وإذا استعصت هذه اللغة على الفهم، أو إذا صعب تعلمها، أو إذا عجزت عن الأداء العصري واستيعاب العلوم والفنون العصرية، فإن كل شيء بعد ذلك يستعصي على الأمة ما لم تنبذ لغتها وتتخذ لغة أجنبية، ولكن هذا العمل ليس من الهينات؛ لأن الأمة تحتاج إلى مئات السنين لكي تستطيع نسيان لغتها واتخاذ لغة أخرى، وهي في هذا الاستبدال تتعرض لألوان من الخطر لا تحصى، وقد تنحدر إلى هوات لا تنهض منها.
Bilinmeyen sayfa