فقد كانت غاية العلوم والمعارف خدمة الدين والدين فقط، وما عدا ذلك فهو عبث أو كفر، وإذن اتجهت النهضة في ناحية من نواحيها إلى الاستقلال من الدين، حتى علم السياسة ظهر له من يدافع عنه في شخص «ميكافلي» الذي كان يطلب لهذا العلم استقلالا كي يبحث في نزاهة فلا يخضع الباحث فيه للدين أو الأخلاق، وإذن يمكن أن نقول إن أول واجب قام به الأدباء والعلماء في بداية النهضة كان الاستقلال من سلطان الدين.
وناحية أخرى اتجهت إليها النهضة هي الإقلاع عن الرجم الفلسفي والمنطق الذهني إلى التجربة، فقد كان المألوف عند العالم من علماء القرون الوسطى أن يبحث الموضوع الذي يتناول درسه بحثا فلسفيا، وكأنه يضارب بذهنه مضاربة، فهو يرجم بالفلسفة ويحاول أن يصل النتائج بالأسباب، ولكن رجال النهضة رأوا خطأ هذه الطريقة فقاموا يدعون إلى التجربة.
فيجب ألا نؤمن بشيء حتى نجربه في ظروف مختلفة وعلى أيدي أناس كثيرين، ومن هنا يمكن أن نقول: إن النهضة كانت إلى حد ما، وفي تعبيرها الحديث، ثورة العلم على الفلسفة. أو ثورة التجربة على التفكير المنطقي الفلسفي.
ثم نجد إلى هاتين النزعتين حركة جديدة اكتسبها الأوروبيون من عرب الأندلس هي الرغبة في تحويل المعادن والبحث عن إكسير الحياة، فقد اشتغل العرب بنوع غريب من المعارف مزجوا فيه الغيبيات بالكيمياء، فصاروا يتكلمون عن الحياة الأبدية في الوقت الذي يتكلمون فيه عن تحويل الرصاص إلى ذهب، والكيمياء الآن أبعد العلوم من الغيبيات ولكن بذرتها الأصلية نبتت في تلك التربة الأندلسية العربية، وقد نستطيع أن نرجع بهذه البذرة إلى المصريين القدماء الذين أكبروا من شأن الذهب ونسبوا إليه صفات الخلود، وكلمة كيمياء معناها مصر أو العلم المصري، وهو التحويل للمعادن الذي أفشى روح التجربة بين العلماء.
وبعد هذه المقدمة المختصرة يجب أن ننظر الآن في حياة هذين العالمين الإنجليزيين فقد كان روجر بيكون راهبا انجليزيا، مثل معظم العلماء في وقته، إذ كان الدير موئل الثقافة، ومما يدل القارئ على روح العصر أن بيكون هذا كان يبرر درس الرياضيات بأنها تساعد على فهم الدين، وهو من هذه الناحية يعد من رجال القرون الوسطى وليس من رجال النهضة، إذ كان يظن أن الغاية من المعارف الإنسانية هي خدمة الدين، وليس هذا غريبا منه، فقد مات في 1294 والتاريخ الرسمي لبداية النهضة هو سنة 1453.
أما الناحية التي خدم بها النهضة فتنحصر في دعوته إلى جمع المعارف بملاحظة الطبيعة دون جمعها من الكتب، ثم كان ينتقص الذهن فيقول: إننا إذا فكرنا في موضوع فيجب ألا نأتمن ذهننا، ولا نثق بالنتيجة التي وصلنا إليها إلا بعد أن نمتحن هذه النتيجة بالتجربة، لنرى هل هناك افتراق بين قياس الذهن وقياس اليد، أو بين التفكير المجرد والتجربة العلمية.
ثم كان يدعو الأوروبيين إلى درس اللغة العربية، وقد كان علماء العرب في ذلك الوقت قد اتجهوا، كما قلنا، نحو التجربة، عندما تكلموا عن الكيمياء التي مزجوها بالغيبيات، وقد اتهم بالهرطقة لهذه الدعوة كما كان يتهم المجددون في مصر بالكفر عندما كانوا يدعون إلى الطريقة الأوروبية في التثقيف.
وقد حبس روجر بيكون 14 سنة، وجمد البابا مؤلفاته، وفي هذه المؤلفات نرى كلاما غريبا من هذا الخارج من ظلمات القرون الوسطى عن سفن تجري في الماء بقوة البخار، وعن آلات تكبر وتصغر مثل التلسكوب والمكروسكوب، وعن أشياء أخرى اتهم من أجلها بالسحر.
ويجب أن نذكر أن «كولمبوس» الذي اكتشف أمريكا سنة 1492 قد قرأ جملة مؤلفات كانت هي التي أوحت إليه هذا الاكتشاف، ووجد فيما قرأه كولمبوس مقتبسات من هذا المفكر الإنجليزي الذي أومأ إلى النهضة وأن لم يبلغها، وهذه الكلمات التالية التي نقتبسها من أقواله تدل على الروح الجديد الذي حاول أن يخلقه في أوروبا حوالي منتصف القرن الثالث عشر: «إني أعتقد أن البشر سوف يعتنقون المبدأ الذي أرصدت له حياتي، مبدأ البحث كما لو كان، أي البحث، من البدهيات؛ لأن البحث هو مذهب الأحرار، إذ ينطوي على إتاحة الفرصة للتجربة وعلى حقنا في أن نخطئ ونتشجع ونعود إلى التجربة، ونحن العلميين في الروح البشري سنجرب ونجرب ودائما نجرب، وعلينا في القرون القادمة مع المحاولات والأخطاء، ومع آلام البحث ومتاعبه أن نجرب في القوانين والعادات وفي نظم النقود ونظم الحكومات، حتى نرسم الطريق الوحيد إلى أبعادنا البشرية، كما اهتدت الكواكب إلى أفلاكها ... ثم نسير معا في وفاق بحافز إنشائي عظيم نحو الاتحاد والنظام والقصد». •••
لما ظهر بيكون الثاني كان الزمن قد تغير وتطور كما نرى من الحرفة التي احترفها، إذ كان محاميا وسياسيا بينما بيكون الأول كان راهبا، وهكذا انتقل العلم من الدير إلى المدرسة والكتب.
Bilinmeyen sayfa