والأمة العربية في عصرنا الحاضر قد تخلفت عن أوروبا؛ لأنها أهملت العلم والصناعة، ولن تستطيع أن تستعيد مكانتها في قافلة الارتقاء البشري إلا إذا أخذت بالعلم والصناعة.
بذور الحركة البشرية الأولى
كلما ذكر الإنسان القرون الوسطى خطر للذهن تسلط الكنيسة وحجرها على الحرية الذهنية، وليس شك في هذا التسلط وهذا الحجر.
ولكن يجب ألا ننسى أن الانحطاط لا يعني أن هناك أذهانا متنبهة قد حجرت عليها الكنيسة وصارت تمنعها من التفكير الحر؛ لأن هذه الحال هي حال اليقظة والتنبه على الرغم من هذا الحجر، وإنما حقيقة الانحطاط في القرون الوسطى تعني أن الذهن البشري نفسه قد انحط، فصار ينظر إلى الدنيا من زاوية العقيدة والمذهب، وأخذت العقائد مكان الآراء، والجزم مكان الشك والبحث.
فمنذ القرون الأولى للمسيحية أخذ الناس، أو تلك الأقلية التي كانت تقرأ، يدرسون لغاية واحدة هي خدمة الدين، وعندئذ أصبح الرجل المثقف، وهو في الغالب راهب، يدرس السموات السبع كما ندرس نحن الآن جغرافية إفريقيا، وهو يفعل ذلك، لا؛ لأن الكنيسة تمنعه من درس الطبيعة أو العلم بل؛ لأن هذا هو مزاجه الذي اكتسبه بعد مئات من السنين عدم فيها الناس كتب الإغريق والرومان أيام نهضتها وأصبح الكتاب المقدس موضوع درسهم يقرءونه ويغلقون عليه.
وهذا هو «العصر الجليدي» الذي أصاب الذهن البشري في أوروبا، إذ أصبحت الفلسفة غيبيات غايتها إثبات حقائق الدين ورواية الرسل، وزال الروح العلمي تمام الزوال، فإن هذا الروح كان قد ابتدأ بداية ضعيفة جدا في الإسكندرية، ولكنه ما كاد ينهض حتى مات عقب زوال البطالمة، وبقيت الحال على ذلك إلى أن عاد يتعثر على أيدي العرب في الأندلس.
والمشهور عن القرون الوسطى أن النقل فيها أخذ مكان العقل، ولكن هذا القول ليس صادقا بأكمله، فإنه إذا كان من المسلم به أن العلماء الرهبان كانوا يعتمدون كثيرا على الرواية وما يشبه العنعنة، فإنهم كانوا يعتمدون في أواخر القرون الوسطى على العقل، وذلك إنهم كانوا يفكرون، ولكن تفكيرهم لا يخرج عن حدود الدين؛ ولذلك جعلوا الفلسفة الأوروبية لاهوتا، ولذلك أيضا نجد في النهضة الأوروبية ثلاث نزعات ذهنية مختلفة تناقض نزعات القرون الوسطى. (1)
النزعة الأولى:
هي الرجوع إلى القدماء في الفنون، وتكاد هذه الحركة تكون نزعة وثنية، فإننا نرى الرسام أو المثال، مع رغبته في خدمة الدين، لا يتقهقر أمام موضوع وثني، فإنه يرسم أو ينحت الآلهة كما يرسم أو ينحت الملائكة أو العذراء؛ لا يشعر وهو يفعل ذلك أنه قد تلبس بالكفر والإثم كما كان يشعر أسلافه بين القرنين الثالث والعاشر. (2)
النزعة الثانية:
Bilinmeyen sayfa