في المرة الأولى تركت طه حسين وقد ألقى في نفسي السكينة، وملأ قلبي بالأمل والطموح، وأنار لي طريق المستقبل بحديثه عما يجدر بالشباب أن يتطلع إليه من غايات تتجاوز مطامع الناس عادة في اتساع الرزق وارتفاع الجاه.
وشهدته في المرة الأخيرة راسخ العقيدة في أن النصر مكتوب لمن آمن بحقه وبنفسه وجاهد جهاد الصادقين المخلصين ليخلص أمته مما أخضعت له من القيود، وليستخلص لها حقها من غاصبيه.
تركته في مقابلتي الأولى له خلف مكتبة في «جريدة الوادي» يجلس مهيبا مرتفع الرأس، لضحكته العريضة في الغرفة رنين وصدى، وإني لأعلم الآن أن الذي ألقى في نفسي السكينة وملأ قلبي بالأمل وأنار لي طريق المستقبل، كان في ذلك الوقت نفسه «يستقبل الحزن مع ضوء الشمس ويعاشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل ويقضي معه ساعة الأحلام، يضطرب بين بيت حزين وبين دار للعمل - هي دار جريدة الوادي - يريد اليأس أن يتخذها مسكنا ومستقرا، لا يعرف كيف المخرج ويكاد يستسلم لكيد الكائدين ومكر الماكرين.»
1
وعندما تركته آخر مرة في غرفة نومه في خريف سنة 1973 كان المرض قد ألح على جسمه فأضعفه وأضناه، ولكنه كان مشغول الضمير بأزمة بلاده، مهموما بهموم شعبه، قوي الثقة والإيمان بأن العدوان لا بد مهزوم.
تسعة وثلاثون عاما عرفت فيها طه حسين، رأيته يناضل طوالها لغايتين، لا يرضى حتى يصل إليهما ويصل إليهما معه كل الناس؛ الغاية الأولى هي الحرية، وهي عنده أساس الكرامة والمسئولية للأمة والفرد، والغاية الثانية هي العلم، وهو عنده أساس النهضة في ميدان الثقافة وميدان السياسة وميدان الاجتماع وميدان الاقتصاد.
في غرفة نومه، في صيف 73، كان يسألني عن عدد متخرجي الجامعات الذين انضموا إلى زملائهم المجندين في جيش مصر، لأنه - فيما يظهر - كان يرى أن العلم هو أساس النهضة العسكرية أيضا.
ولم تفارق جسده الروح، كما قال توفيق الحكيم، حتى فارق اليأس روح مصر، حتى اقتحم شبابنا ما أقيم في وجه بلادهم من عقبات.
اختار الله طه حسين إلى جواره في الثامن والعشرين من أكتوبر 1973 ولنا في ذلك الوقت شباب محارب في الصحراء، سمعوا نعيه وهم لا يزالون يرابطون في خنادق سيناء، فكتب واحد منهم وهو المقاتل «عبد الصبور منير» أبياتا «إلى طه حسين من سيناء»، يقول فيها:
بين يدي والصدر
Bilinmeyen sayfa